رَفَضَ الشَّيْءَ : طَرَدَهُ، لَفَظَهُ، صَدَّهُ
احتجَّ عليه: أقام عليهِ الحُجَّةَ والبرهانَ
لا نصادف اللغة أبدًا معزولة. بل نجدها بشكل متزايد على الصفحات الرقمية وعُلب السجائر وفي الإعلانات، مدمجة في التصاميم ومزيَّنة بالألوان والأيقونات. وهكذا، فإنَّ الكثير من المعلومات اللغوية التي نصادفها ونستهلكها لا تكون مصحوبة بالصّور فحسب بل تكون مدمجة فيها كالبصمة على الإصبع. تظهَر اللّغة عبر وسائط رقمية في شريط إخباري من توليف خوارزميات تحدِّد بشكل تلقائي، لكلّ مستخدِم، ترتيب المناشير وتسلسل المعلومات اللغوية التي سيصادفها.
في مقطع مصوَّر قصير على منصّة إنستغرام، تكون اللغة مدمجة بسلسلة من المَشاهد. لكننا نختار في بعض الأحيان كَتم الصوت وإعطاء الأولوية للنص المطبوع الذي يظهر بشكل بارز فوق المَشاهد المُصوّرة. ثمّ نضغَط زرّ ضبط سرعة الفيديو حسب مزاجنا أو الظروف المحيطة بنا لكي نتحكّم بالوقت. هكذا نتحوّل إلى مستهلكي ومعيدي صناعة المحتوى في آن معاً، عن وعي أو غير وعي، وبالتالي مشاركين في إعادة إنتاج الواقع، ضمن الحيّز المتاح في مجتمع المشهَد.
إذًا، اللغة التي نصادفها لا نجدها بالضرورة في سلسلة من الجمل المترابطة، ولكن غالباً في شذرات صغيرة من الجُمَل والكلمات القابلة للتفكيك وإعادة الترتيب. وحتى عندما نصادف اللّغة كأحرف مطبوعة على صفحة، يتأثر معناها بنوع الخط المُستخدَم، أو نوع الورق، وما يعنيه ذلك من معطيات عن تكاليف الطباعة ومصادر التمويل. وفي أية لحظة، قد نجد أنفسنا في موقف يدفعنا للتعبير عن سخطنا من خلال رمي الهاتف جانباً أو تمزيق الصفحة – الوسيط، كمحاولة إعادة تدوير.
الواقع، بمعناه الممكن، شريط أحداث قابلة لإعادة الترتيب والعرض بما يتناسب مع حاجاتنا وطموحاتنا. أمّا بمعناه السائد، وبشكل متزايد، فالواقع هو شريط أحداث يتناسب مع ما تبتغيه شركة الإنتاج، وشركة التوزيع، وشركة التسويق، وأصحاب الأسهُم.
ولكن، ليس قدراً أن تكون اللغة سجنًا أو متاهة أو مجرّد أداة لبيع السّلع الإستهلاكية والايديولوجية. الكتابة هي أولًا ممارسة التفكير، ثم انخراط في سلسلة من الصياغات والمراجعات.
في “رحلة”، اللغة أوسع من أن تكون سجنًا، وأبسط من أن تكون متاهة، وحتمًا ليست أداة للربح السريع. في “رحلة” ينطلق كل مساهِم أو مساهِمة في مغامرة كتابية، بالكلمات أو الصور، بعضها مُتحرّك، عنوانها إقحام الذات في الموضوع. ويَنتُج عنها – عبر المشاهدة ثم التجريب ثم التعبير – سلسلة من النصوص / الأجزاء المترابطة، تنضج، تتصادَم، تُساهم في خلق واقع مغايِر.
هنا، نخطو خطوة إضافية، نخرج من عالم البديهي والمعتاد، الظاهر أمام الأعين المحدّقة في الشاشات، وندخل في عوالم التجربة المباشرة، اللغة الناقلة، والقوى المتوارية خلف الكلمات والمَشاهد، نصطحب معنا قرّاء ومتابعين، نستطلع، نقاتل على جبهة اللغة، نحرّرها من البنى المتحكمة بها، نكشف زيف الظاهر، نستعيد الحروف والصور معًا، ننقُش بها احتمالات لا نهاية لها.
عن رحلة
بين 2009 و2013، كان فريق “رحلة”، وهو مجموعة من الشبّان الذين تعرفوا على بعضهم على الانترنت قبل أن يبلغوا سن الثامنة عشرة، يُصدِر بشكل متقطّع خمسة أعداد، قبل أن تتوقّف المجلّة عن الصدور لمدّة ثماني سنوات تقريباً. في 17 تشرين 2019 وجدنا في الانهيار الاقتصادي في لبنان فرصة للتلاقي وإعادة إطلاق المشروع، ليصدر حتى شهر حزيران 2025 أكثر من 33 عددًا ورقيًا بالإضافة إلى مشاريع إعلامية وثقافية متنوعة تهدف بشكل أساسي إلى خلط الأوراق والعبث برتابة السائد في الحياة اليومية.
يأتي كلّ عدد من “رحلة” حاملاً ثيمة معيّنة تعبّر عن الحسّ العام وهواجس الكتّاب الحاليّة، فينخرطون، كلّ على حدة، في عملية تجريب من خلال الوسيط (اللغوي، الورقي، الرقمي، البصري)، ثم يخرجون من رحلتهم الذاتية إلى العدد الورقي الحاضن لكل هذه التجارب، كما لو أنهم قاموا بلصق هذه الأفكار في نص أدبي واحد قائم على مذهب المونتاج.
خلال المرحلة التي تلت الولادة الثانية لـ”رحلة” (2019-2024) كنا نتسابق مع الأحداث من أجل إصدار أعداد تحمل معنى ما أو ترسل إشارات بأن ما يحصل لا يعني حتمًا إصابتنا بالشلل. رأينا في الإنهيار المالي في لبنان والجائحة و تصدُّع الهيكل فرصة لكي ندعو مَن هم حولنا إلى إعادة النظر أو “استعادة النظر”. استعرنا من الشارع شعار “استعادة الوقت المنهوب“. كان الوقت يداهمنا في كل مرة. كان الوقت اقوى منّا. مؤخّراً، كنّا نتسابق مع البث المباشر والشرائط المصوّرة والصواريخ المتساقطة فوق أهلنا. اعتقدنا أن لا وقت للتفكير. وأن ديكتاتورية الزمن باقية للأبد لا محالة.
ولكن، ماذا نريد؟ هل نحن في سباق مع الزمن؟ لا. نريد أن نردم الفجوة بين الواقع والممكن، أن نعيد ترتيب المشهد. نريد وقتًا مستقطعًا لاستعادة الحدث. نريد تحرير الخَبر من عبارات “عاجل” و”داهمنا الوقت” التي تستوطن الشاشات. نريد أن نتمّعن في المجزرة، في الوجوه، في الوقائع، في الخطايا، أن نقحم أنفنا فيها، نتنشّق المعنى ونعيد قذفه في العالم.
رحلة هي دعوة للكتابة بالكلمة والصورة والشريط المصوّر. نكرّر، هي أولاً دعوة للتفكير، فسحة للتفكير، ثم صياغة ومراجعة، وإعادة تفكير تُنضِج اللغة. في اللغة، “نَضَج”، أي “تحسّن مع الوقت”. ومع صدور كل عدد، تتحول النصوص المرسلة إلى سلسلة من الأجزاء المترابطة، تنضج، تتصادم، تساهم في خلق واقع آخر.