- فلاديمير: بيروت.
- استراغون: بيروت؟!
في الاستراحة بين فصلي مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، وضع الممثلان 1 و2 شخصيتي فلاديمير واستراغون، اللتين كانا يمثلانهما، على تعليقة ثياب. ثم استراحا على كنبة في الكواليس لبعض الوقت، ريثما يضاف بضع أوراق خضراء على الشجرة العارية في الفصل الثاني كإشارة إلى مرور وقت على أحداث الانتظار في الفصل الأول.
وعلى الفور، تزحلق استراغون على عارضة التعليقة نحو فلاديمير وسأله باهتمام بالغ إذا كان يعلم إلى أين ذهب بوزو ولاكي بعد أن مرّا بهما؟
- فلاديمير: بيروت
- استراغون: بيروت؟! ما هذه؟
- فلاديمير: مكان استراحتهما.
- استراغون: آه، تعني أن بيروت هي تلك الكواليس في الجهة المقابلة؟
- فلاديمير: لا.
- استراغون (متابعًا شاردًا): وهل فيها ما يكفي من التعاليق لتعليق كل أغراض لاكي؟ (ثم منتبهًا إلى نفي رفيقه) لا؟! ليست كواليس؟! إذاً، ما هي؟
- فلاديمير: انتهت الاستراحة.
وبالفعل، جاء الممثلان 1 و2 وارتدى كل منهما شخصيته وعادا إلى الخشبة خلف الستارة. أعادا تعليق الأحذية على الشجرة المخضرّة قليلًا وحلّ كل في موضعه.
فُتحت الستارة واستؤنف الانتظار في الفصل الثاني. وخلال لعب الممثلين العابث المليء بوقفات صمت قصيرة كصُموت الإيقاعات، تسلل استراغون نحو فلاديمير وألحّ عليه السؤال عمّا تكون بيروت.
- فلاديمير: دعنا لا نخرج عن المكتوب. أخبرك عنها بعد العرض.
- استراغون: بعد العرض نعود إلى صفحات كتاب ونصمت طويلًا في انتظار من يخرِجنا من جديد.
- فلاديمير (مقاطعاً): إنك تفاجئني يا غوغو!
- استراغون (متابعاً بحماسة): ثم أن الممثلَين يُتقِنان تمثيلَنا… (وبإصرار) قل لي ما هي بيروت.
في تلك اللحظة، تحدث جلبة مع دخول بوزو ولاكي مرة جديدة وتعثّرهما ووقوعهما أرضًا، فقد أصبحت السلسلة التي ربطت السيد بعبده في الفصل الأول أقصر مما كانت عليه، ما أدّى إلى تعثّرهما المتكرر.
- فلاديمير: إذهب واسألهما. لكن عليك أن تعرف أنهما يؤديان دوريهما بنفسيهما. لا ممثلَين لهما.
- استراغون: لماذا؟
- فلاديمير: اختُطف ممثلاهما في بيروت وسيعجزان عن الرد عليك أمام الجمهور.
- استراغون: اختطاف؟! بيروت!
- فلاديمير: نعم. لمّا عرف حشد من اللبنانيين…
- استراغون (مقاطعًا): لبنانيين! ومن هم يا ديدي؟
- فلاديمير: سكان لبنان وعاصمته بيروت.
- استراغون: آه! لبنان بلد وبيروت مدينة. أوف! وفي كل استراحة يذهبان إلى هناك؟
- فلاديمير: نعم.
- استراغون: لماذا؟
- فلاديمير: أملاً في أن يعثرا على ممثلَيهما، فالشخصية تبقى مُخْلِصة للممثل الذي يحسن إحياءها ويُتقن تمثيلها.
- استراغون: هل بيروت بعيدة أم قريبة؟
- فلاديمير: لا أعرف.
- استراغون: وماذا حدث؟
- فلاديمير: لما عرف حشد من اللبنانيين أن "في انتظار غودو" ستُعرض في بيروت، هجموا على الفرقة المسرحية واختطفوا ممثلَيْ بوزو ولاكي، هكذا عشوائياً، وفرّوا بهما إلى جهة مجهولة بقيت مجهولة.
- استراغون: لماذا؟
- فلاديمير: أولاً، لأن الخطف لهم عادة، والسبب هذه المرة، إبعاد النحس عن أنفسهم وعن بلدهم، فقد عرفوا أن غودو لا يأتي في نهاية المسرحية، بينما هم ينتظرون أمراً ما سوف يأتي بالتأكيد.
- استراغون: وهل يأتي؟
- فلاديمير: من؟
- استراغون: غودو
- فلاديمير: لا بد أن من بينهم من يعرف إذا كان يأتي أو لا يأتي. أما أنا وأنت فلن نعرف ذلك بالتأكيد قبل نهاية المسرحية.
- استراغون: نعم بالتأكيد. وهل أتى ما ينتظره اللبنانيون؟
- فلاديمير: لا.
- استراغون: وهل سيأتي؟
- فلاديمير: لا.
- استراغون: وكيف تعلم أنه لن يأتي؟
- فلاديمير: لا أعلم.
- استراغون: إذاً، لماذا ينتظرون؟!
- فلاديمير: مثلما ننتظر نحن (ثم مشيرًا إلى الثنائي المتعثّر) اسألهما.
- استراغون: ولكنهما مثلنا من بنات أفكار صموئيل ولن يعرفا إذا كان غودو يأتي أو لا يأتي قبل نهاية المسرحية.
- فلاديمير: ديدي إنك تفاجئني حقًَا بفطنتك المفاجئة! أنا قصدت أن تسألهما عما يدفع اللبنانيين إلى الانتظار.
علا صوت بوزو مستغيثًا فهُرعا نحوه لكنهما لم يتوقّعا أن يريا ما رأياه: بوزو وقد فُقئت عيناه ولاكي أبكم أخرس. لم يكد ذهولهما من هذا المنظر أن ينقضي حتى أصابهما روعٌ من احتمال أن يكون صموئيل بيكيت بكل هذه القسوة. فراحا يتساءلان بهلع عما يمكن أن يحلّ بهما في النهاية بسبب غودو، مفضّلَين بشدة أن يبقيهما الكاتب في حالة انتظار أبدية، على أن يشوّههما أو يميتهما. وتحوّلا من انتظار غودو إلى انتظار رسوله الفتى الذي أتاهما في نهاية الفصل الأول ليخبرهما عن تأجيل مجيء غودو.
- فلاديمير: ألِفْنا حضوره… حتمًا سيعود.
- استراغون: من؟
- فلاديمر: الفتى... رسول غودو.
- استراغون: أأ أأ أأ… هل تحاول تغيير نص صموئيل؟
- فلاديمير: لا أعرف ما الذي كتبه حتى أغيّره. لكني تعوّدتُ على الانتظار وما عدتُ أرغب في قدوم غودو.
ثم تلاشى فلاديمير عائدًا إلى جسد الممثل 1 ليناكف بوزو، كما كتب صموئيل. وبقي استراغون يحاول إيجاد طريقة للتواصل مع لاكي حتى سمع همسةً تسأله: "تريد أن تعرف ما هي بيروت؟"
- استراغون (متلفتًا مذهولًا نحو مصدر الهمس): نعم... ومن الذي يتكلّم معي؟
- لاكي (همسًا): الأفازيا الإلهية كواكواكواكوا.
- استراغون (إذ تذكر مونولوغ لاكي في الفصل الأول): لاكي؟
- لاكي: نعم.
- استراغون: ولكنّك أبكم.
- لاكي: بل مصابٌ بأفازيا… عجز عن الكلام.
- استراغون: كيف أصِبتَ بها؟
- لاكي: كلما زرت بيروت ازداد عدد الكلمات التي تشكل ذاكرتي عنها حتى احتقنت كلها في حلقي. ثم لاحظتُ أنها تتزاحم على الخروج كلها دفعة واحدة كلما هممتُ بالنطق. فصمتُّ خوفًا من أن أنفجر.
- استراغون: ولكنك تتكلّم في الفصل الأول.
- لاكي: لا. ممثّلي هو الذي يتكلّم. وحالة الأفازيا تعاودني بعد كل استراحة عندما أعود من بيروت. وأنا لا أعود طوعًا بل لأني مكتوب هكذا.
- استراغون: وكيف تتحدث معي الآن؟
- لاكي: هل تراني أحرّك شفتيّ؟
- استراغون (متراخياً لشدّة تعجّبه): آه… لا. (ثم مستعيدًا حيويته) ولكنّي أسمعك.
- لاكي: هذا لأني تدرّبتُ على تقنية التكلّم من البطن. أدفع الكلمات نحو مكان أوسع مثل المعدة والأحشاء والفراغات الأخرى لكي أخرجها متسلسةً. ولكني لا أرفع صوتي خوفًا من احتشادها في حلقي مجدّدًا.
- استراغون: فراغات في الجسد؟
- لاكي: نعم… كل شخصية فقدت ممثلها تعرف ذلك. وهو ما يشجّعها على طلب الحق في الحياة.
- استراغون: لا أفهمك الآن كما لم أفهمك في الفصل الأول… (مغيّرًا الحديث) وماذا حصل لسيّدك بوزو؟
- لاكي: في بيروت الأسياد والعبيد متقاربون. في الشكل، تكاد تنتفي الفروقات بينهم. وفي المضمون، كل عبد سيّد وكل سيّد عبد.
- استراغون: كيف ذلك؟
- لاكي: يجب أن تراهم واقفين على درجات سلّم: عبد تحت سيّد فوق عبد تحت سيّد... حتى رأس السلّم. وكلّهم يتحرّكون عليه صعودًا ونزولًا في نفس الوقت، مثل الشخوص في لوحات إيشر.
- استراغون: هذا يعني أن ثمة سيدًا أعلى في نهاية المطاف.
- لاكي: وعليه أيضًا سيّد... يكون في أغلب الأحيان من خارج السلّم، من سلّم أعلى.
- استراغون: يعني أن العالم خارج الكُتُب كله سلالم درجاتها أسياد وعبيد يتبدّلون.
- لاكي: لو كان فلاديمير معنا لقال لك "فطنتك المفاجئة تفاجئني يا غوغو".
- استراغون: ولكنه ليس هنا. أخبرني من فقأ عيني بوزو.
- لاكي: هو سمل نفسه.
- استرغون (صامتًا): يومئ للاكي بأن يكمل.
- لاكي: أيقن بوزو أنه سيّد بفضل قلم صموئيل. ولمّا اختُطف ممثله، كان عليه أن يواجه أقرانه الحقيقيين من غير المكتوبين. فقرر أن يتسلّق السلّم سريعًا إلى درجة الظلم المطلق حيث الظالم أعمى. ففقأ عينيه، وفي ظنّه أنه يوازي العدالة التي هي أيضًا عمياء… وظالمة أحيانًا!
- استراغون: وأنت؟ لا بد أنك صعدت مع سيّدك إلى فوق.
- لاكي: لا. كان كلما صعد وجارَ أكثر هبطتُ أكثر حتى وصلتُ إلى القعر، حيث أقبع مع كثيرين.
- استراغون: ولكنّك لصيق به الآن.
- لاكي: أنا بالنسبة إليه حالة ذهنية. ولأنه أعمى يحتاج إلى أن يتحسس بيديه وجود عبده ليثبت قدرته الهائلة على الجور الذي لم يعد يرتوي منه، في حين أن عبيده يتزايدون ويتناسلون عبيدًا.
- استراغون (بعد صمت طويل كان يُسمع خلاله حوار ممثل فلاديمير مع بوزو): وبيروت؟
- لاكي (متنهدّا): بيروت؟ هي معجزة الهندسة المعمارية.
- استراغون (مستسلمًا رافعًا أصابعه العشر): أكمل. ارتدِ قبعتك كما في الفصل الأول، وأكمل وحدك وأعدك بأني لن أقاطعك كما حاولتُ حينذاك.
لم يرتدِ لاكي قبعته لئلّا ينكشف خروجه عمّا كتبه له صموئيل.
- لاكي: بيروت ليست مدينة. إنها ديكور. هي أشبه بمدن أفلام رعاة البقر؛ واجهات فقط تُرَكّب وفق متطلبات المشهد الدائر ثم تُفكّك. هي مثلًا ديكور للزلازل (ضربها 7 منها على مرّ العصور). بيروت مثل استديوهات ديزني المفتوحة لمن يرغب من السيّاح بالتقاط صور لأنفسهم خلال تصوير فيضان أو حريق غابة. وتبقى صورهم شاهدة على زيف أنهم عايشوا كارثة حقيقية أو مثّلوا في فيلم.
بيروت خشبة لمسرحيات الغزاة الذين يحلمون بالوصول إلى البحر. يتسابقون إليها والواصل أولاً يعمّرها والذي يليه يسعى جاهدًا لتدميرها. وعندما يُطرد الغازي السابق يصل اللاحق إلى أطلالها ويضع قدمه على أعلى حجر من بين الركام صارخاً "جئنا شَهِدنا انتصرنا". ومن ثم ينكبّ على إعمارها من جديد.
ترى يا غوغو، لماذا يصرّ الغزاة كما الزلازل على غزو هذه البقعة بالذات، لو لم تكن مسرحًا يسهل فيه تغيير الديكور والممثلين والكومبارس؟
- استراغون: يرفع كتفيه ويسدلهما سريعًا.
- لاكي (متابعاً): ثم تغيّرت الأحوال وصار الغزاة أقل تدميرًا لبيروت. يكتفي الواصل حديثًا منهم بإضافة أشكالٍ من عمارته، حيث الدمار الذي خلّفه، وينكّهها برشة من ثقافته، وهكذا دواليك... حتى أضحت مدينة هجينة، بشرًا وحجرًا، لا شخصية لها سوى أنها مسرح يستقبل المأساة كما الملهاة بجرعات محسوبة من المشاعر. بيروت مدينة مؤقتة، تلعب دور المعرض لمدة الحدث فقط: معركة، عاصمة ثقافية، حرب، مؤتمر، إنفجار، محطة سياحية… ثم تفكَّك منصات العرض وتنظَّف الساحات وتُزال آثار الجرائم وأسبابها وترمّم الأبنية المتضررة، ويعود كل شيء إلى "النورمال"؛ النورمال المركّب الذي لم يكن نورمالًا بطبيعته.
وبعد انتهاء كل حدث ومناسبة، يعود قاطنوها كما العابرون فيها إلى شتمها ولعنها بسبب روائحها الكريهة وضيقها وضجيجها وصخبها وقيظها وزحامها.... ولا تعود تلك الزهرة في غير أوانها إلاّ في المغنى.
فجأة، يعلو صوت بوزو حنقًا على الممثل 1 (ممثل فلاديمير) الذي يلح عليه بالسؤال عن الوقت، أوقات حدوث الأمور، فالوقت عدوّ الأعمى.
- بوزو (غاضبًا): ألن تكفّ عن تعذيبي بوقتك اللعين! أنت كريه! متى متى متى! ذات يوم، ألا يكفيك ذلك. ذات يوم أصبحَ أخرسَ، ذات يوم أمسيتُ أعمى، ذات يوم سنغدو طرشانًا، ذات يوم وُلدنا، ذات يوم سوف نموت، في نفس اليوم، في نفس الثانية، ألا يكفيك ذلك؟ (ثم يتابع بهدوء) يَلدن مفرشِخات فوق القبر، يبرق النور هُنَيهةً ويعود الليل. (يشدّ الحبل. ثم إلى لاكي) هيّا!
يستغل لاكي فرصة لملمة أغراضه ويمرّر لاستراغون: "كان يصف بيروت بدقة".
بعد رحيلهما بقليل يصل الفتى رسول غودو ليبلّغ فلاديمير واستراغون بأن غودو يؤجّل مجيئه إليهما مرة أخرى.
ينتهي العرض. يدخل الممثلان 1 و2 إلى الكواليس ويعلّقان شخصيتَي فلاديمير واستراغون على التعليقة في انتظار عرض اليوم التالي.
- استراغون: ديدي! كيف لك أن تعرف كل ما رويته لي؟
- فلاديمير: إنه الانتظار يا غوغو.
الصورة: بيروت تنتظر تفكيك الديكور. رسم إيليا الطويل
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة