لأكثر من ثلاث ساعات جال ألبير كامو في ممرات متجر "لو شركوتيه عون" بين حشود المتبضّعين يبحث عن زيت طهي بسعر معقول. حدث ذلك في الأربعينيات من القرن الماضي، وكان نظام توزيع الحصص الغذائية أكثر صرامة من أي دولة محتلّة أخرى في أوروبا الغربية إبّان الحرب العالمية الثانية.
كانت الظروف الحياتية صعبة جداً في ظلّ حكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال الألماني. جرّد الألمان فرنسا من ملايين العمال (كأسرى حرب وعمال "متطوعين")، ووضعوا يدهم على الكثير من الإمدادات الغذائية وطالبوا بتسديد مبالغ نقدية كبيرة. كما شهدت تلك الفترة أزمات اقتصادية حادة في ظل حكومة شمولية، وعانى المدنيّون نقصًا في جميع أنواع السّلع الاستهلاكية. كان نظام توزيع الحصص صارمًا، أضف إلى ذلك سوء إدارته، ممّا أدّى إلى تفشّي سوء التغذية والأسواق السوداء وحالة من العداء للإدارات الحكومية وطرق الإمدادات الغذائية. استولى الألمان على حوالى 20 في المئة من إنتاج الغذاء الفرنسي مسبّبين بذلك اضطرابًا اقتصاديًا شديدًا للشعب الفرنسي. وانخفض الإنتاج الزراعي إلى النصف بسبب نقص الوقود والأسمدة والعمال، ومع ذلك، صادر الألمان نصف إنتاج اللحوم، و 20 في المئة من المحصول الزراعي، و 2 في المئة من الشمبانيا.
أثّرت مشكلة الإمدادات بسرعة على المتاجر الفرنسية التي اختفت منها معظم السّلع، فردّت الحكومة بتعميم نظام الحصة الغذائية، ولكن المسؤولين الألمان كانوا اﻷقوى في فرض السياسات، فسادَ الجوع في المجتمع الفرنسي وبخاصة بين فئة الشباب في المدن. امتدّت الطوابير أمام المحّال التجارية. واستفاد بعض الناس، ومن بينهم جنود ألمان، من السوق السوداء، حيث كان يُباع الطعام بأسعار مرتفعة للغاية. كما طرحَ المزارعون منتجاتهم الحيوانية أيضًا في السوق السوداء، وهو الأمر الذي أدّى إلى تضاؤل الكميّات في السوق العاديّة.
كما شاع تداوُل تذاكر الطعام المزيّفة وشراء المنتجات مباشرة من المزارعين في الريف والمقايضة بالسجائر، علمًا أنّ هذه الأنشطة ممنوعة منعاً باتاً تحت طائلة المصادرة والغرامات. وكان نقص الغذاء أكثر حدّة في المدن الكبيرة. أمّا في القرى النائية، فقد سَمَح الذبّح السرّي، وزراعة الخضروات في الحدائق، وتوافر منتجات الألبان، باستمرار الحياة بشكل أفضل. ووفّرت الحصص المحدّدة رسمياً وجبات غذائية بالكاد تحمي من الجوع، تؤمّن 1300 سعرة حرارية في أفضل اﻷحوال يوميًا. . فاضطرّ الناس إلى دعمها بما توفّره الحدائق المنزلية والمشتريات من السّوق السّوداء.
وقف ألبير كامو وسط حشود المتبضّعين وشاهد مشاجرات من أجل الحصول على تنكة زيت. وما لبث أن بدأ يُفكّر في الوضع الإنساني في فرنسا، فلاحظ ما يلي: "القبول بعبثية كل ما يحدث من حولنا تجربة ضرورية ولن يتسبّب ذلك في انقطاع الطريق. هناك احتمال في أن يطلق هذا الأمر تمرّداً قد يُثمر حسنًا. وتحليل فكرة التمرّد قد يساعدنا على اكتشاف أفكار قادرة على استعادة معنى نسبي للوجود، حتى لو بقي هذا المعنى ينطوي على مخاطرة. فلطالما تصوّر الناس المأساة تتأرجح بين قطبي العدمية الشديدة والأمل اللامتناهي. وبالنسبة لي، لا شيء يعبّر عن الحقيقة أكثر من ذلك. البطل ينكر النظام الذي يُسقطه، والنظام الإلهي يضرب لأنه مرفوض. وهو الأمر الذي يؤكد وجودهما (البطل والنظام) في نفس اللحظة التي يتم فيها التشكيك في هذا الوجود. ويستخلص الكورس الدرس، ذلك أن ثمة نظام يتحكم بالوجود، وأن هذا النظام قد يكون مؤلمًا، لكن الأسوأ من كل ذلك هو عدم إدراك وجوده. ويتحقّق التطهير الوحيد الممكن من خلال عدم إنكار أي شيء وعدم استبعاد أي شيء، وتاليًا قبول سرّ الوجود، حدود الإنسان. هذا هو باختصار النظام الذي يعرفه الناس دون أن يتعرفوا عليه. قال أوديب بعد أن اقتلع عينيه: "كل شيء على ما يرام". فهو من الآن وصاعدا بات مبصِرًا مع أنه لن يرى. تفيض عتمته بالنور، ويضيء وجهه بعينيه المطفأتين بأسمى درس عن الكون التراجيدي. رجل بلا أمل، يدرك هذه الحالة دون أن ينتمي إلى المستقبل.
في تلك اللحظة، توقف كامو عن البحث عن زيت الطهي وقرر إعداد البيض المسلوق عوضًا عن البيض المقلي.
بوست فيلوسوفي
postphilosophy.com
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة