"وحاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، متسع باستمرار، تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تُعشعش في كل مكان، ومن أن تنغرز في كل مكان، ومن أن تقيم علاقات في كل مكان."
نعتتني زوجتي بالمازوشي عندما قلت لها أنني وافقت على اقتراح نتفليكس بمشاهدة فيلم "عدوى" (Contagion - إخراج ستيفن سودربرغ، 2011) بعد بضعة أسابيع على بدء جائحة الكورونا وحالة الذعر المرافقة لها.
أفلام الرعب لا تعنيني عادةً، لكن هناك أمرًا ما يجذبني إلى الأفلام الأبوكاليبتية الهوليوودية. فمن منّا يستطيع مقاومة مشاهدة الماكينة الهوليوودية تتخيل نهاية العالم مرة تلو الاخرى قبل نهاية الرأسمالية؟ فكيف بالأحرى لو كان العالم يعيش الأبوكاليبس ذاته الذي يتطرّق إليه الفيلم؟ (أو أن الفيلم يعالج الأبوكاليبس الذي نعيشه؟!).
كنت قد شاهدت "عدوى" مرات عدة منذ صدوره في 2011، لكنّي هذه المرة أردت اختبار ردّ فعلي على الفيلم بينما نعيش الحجر وارتفاع أعداد الإصابات والحالات الخطرة وموت الآلاف، فأجبرت نفسي على خوض حالة قصوى من الواقعية المفرطة hyper-reality، كما قد يصفها الفيلسوف بول فيريليو، "غامسًا" روحي ومخّي المسكين بمادة بصرية تُضاف إلى كل الأرقام والمعلومات والمؤتمرات الصحافية والإحصاءات.
يحاول فيلم "عدوى" أن يصدمنا، أن ينقلنا إلى حالة الطوارئ. يبقى الفيلم على مسافة من التركيبة المعتادة المبالغ فيها والتي غالبًا ما نراها في أفلام نهاية العالم الأميركية - الهوليوودية. كتّاب الفيلم أصروا على "الواقعية" الفائقة التي تطغى على أحداث الفيلم، فقد كُتبَ بالتعاون مع خبراء في علم الفيروسات والاوبئة وكيفية تفشيها. ولاحقًا، أثار إعجاب المجتمع العلمي بسبب وصفه الواقعي، كـ "محاكاة" (simulation) لكيفية تفشّي وباء خطير وسريع الانتشار في عالمنا النيوليبرالي، حيث تتشابك باستمرار الطّرود والسيّاح والعمّال وسفن الشحن حول الكرة الأرضية من دون توقف، ليلًا نهارًا، الى ما لا نهاية، وكل ذلك خدمة لرأس المال وتكاثره.
ولكن الفيروس في "عدوى" ليس فقط سريع الانتشار إنما أيضا شديد الفتك. أول الضحايا في الفيلم أشخاص مجهولون في آسيا بدايةً ثم حول العالم، ومن ثم تموت الحسناء الشقراء الأميركية زوجة أحد أبطال الفيلم، وكذلك يموت ابنهما، ليكشف الفيلم بهذه الواقعة جديةَ خطرِ الوباء؛ أي حتى العائلة البيضاء والعالم الحر ليسوا بمنأى عنه.
كمشاهدين ومستهلكين للواقعية المفرِطة في 2020، ينتابنا نوع من الارتياح الغريب لدى مشاهدة الفيلم مع أن فيروس الفيلم يشبه إلى حد كبير فيروس الكوفيد - 19. إلا أن ما أدهشني في الفيلم هو تصويره نوعًا آخر من العدوى التي ترافق العدوى البيولوجية.
مؤامرات، في كل مكان
جماليًا، يستعمل سودربرغ تركيبته المعتادة من السرديات المتعددة والمتزامنة ولكن في أماكن وقارات مختلفة، ويضعها المونتاج الموازي في قالب واحد مستنفرًا المشاهد في شكل دائم. ولكي يتمكن من نقل هذا الشعور بـ "الكارثي الأبوكاليبتي" بنجاح، يعمد سودربرغ إلى استخدام أدوات وسرديات تُظهر بشكل متواصل خطر التفشي الفيروسي (virality)، بما يشبه سيل المعلومات (feed) الضخم على وسائل التواصل الاجتماعي التي يطحن بعضها بعضًا وتتفشى في تفاصيل الفيلم وتشكّله. وهكذا يصبح العمل عبارة عن سرديات feed تمثّل جماليته الفيروسية المرافقة للفيروس الفعلي - القاتل - في سيرته.
وعلى طريقة هيتشكوك في "شمالًا الى الشمال الغربي"، لا يترك "عدوى" وسيلة مواصلات الا ويظهرها ويستعملها: السيارات والباصات والطائرات والطوافات والقطارات والعبّارات... وبالطريقة نفسها، يعرض كل الأدوات والوسائل التكنولوجية والتقنيات التي اخترعتها الحداثة وما بعدها: الوقت المتقطع والسريع، الخبراء والأرقام ووسائل الاتصال - أي كل الأدوات المعاصرة التي تتعاطى الحركة في الزمان والمكان والانتشار والتكاثر الماتيماتيكي (المُحَوْسب).
في "عدوى"، نشاهد أيضًا اليوتوبيا التكنو-رأسمالية وكفاءتها في خلق ومواجهة كارثة "استثنائية"، وكيف لهذه اليوتوبيا ذاتها القدرة على ايجاد حل لما صنعته يداها. كما نرى التضحية الأميركية على كل الجبهات، عائلية كانت أو علمية أو عسكرية أو سياسية، من أجل النجاة ومن أجل ايجاد لقاح يعلن انتصار التنافسية الرأسمالية على الطبيعة مجددًا، على رغم ملايين القتلى (باعتبارهم أضرارًا جانبية). وهو انتصار على من لا يتّبع نموذج الرأسمالية الغربية، على سبيل المثال الصين الفاسدة، كما يرسمها الفيلم، التي تخطف وتسرق.
ولكن هناك نوع آخر من الاضطراب في هذه الجنة: المؤامرة.
ففي اجتماع عالي المستوى و"توبْ سيكرت"، يطرح أحد الضباط فرضية أن الفيروس هو عمل إرهابي من تنفيذ أحد أعداء أميركا، لكن العالِم الحاضر في الإجتماع يعترض على هذا الكلام كونه لا يتبع المنطق العلمي والعقل.
وفي المقلب الآخر، هناك صنف مختلف من البارانويا المؤامراتية التي تنتشر بشكل علني أكثر في عالم المعلومات الرقمية الموازية: في الدقيقة الخامسة من الفيلم نتعرف على آلان كرومْوييد (يلعب دوره "جود لاو")، وهو يشاهد شريطًا مصورًا على يوتيوب يُظهر أول ضحايا الفيروس: رجلٌ يقع أرضًا في أحد شوارع هونغ كونغ. يشكّك كروموييد بمصداقية الخبر ويطرح نظرية تلو الأخرى حول الفيديو وحقيقة الفيروس. لاحقًا، يلاحق كروموييد أحد العلماء الذين يدرسون الفيروس الى مكان عمله، يشكك بمعلومات العالِم ويقول له أن إحدى النظريات "الانترنتية" تقول إن الفيروس مصدره عمل إرهابي. كروموييد يعرّف عن نفسه صحافيًا حرًا مناهضًا لطغيان الدولة والنظام ولوبي الأدوية Big Pharma. ويريد أن يحرّر الحقيقة "الحقيقية" وأن يفضح المؤامرة من خلال طرح نظريات وتكهنات غير مدعومة بالأدلة، وتنطلق فقط من فكرة أن الرواية الرسمية هي دائماً رواية كاذبة. وشبّه كثيرون كروموييد بشخصية "ألكس جونز" الانترنتية. إذ أن جونز المنتمي إلى الحركة "الليبرتارية" وأحد أشهر منظري المؤامرة في أميركا، بدأ مسيرته بالتشكيك برواية 11 أيلول الرسمية قائلاً إنها عمل داخلي من تدبير الاستخبارات المحلية. وهو لا يزال لاعبًاًفاعلًا في العالم السفلي المؤامراتي اليميني الأميركي، يبيع سرديات خيالية لمتابعيه ويدعم كل أنواع الفاشية والمعارضة لليسار والاشتراكية، حتى قررت منصات إلكترونية عدة منعه من عرض برامجه وخطاباته عبرها.
الفيروس البيولوجي يولد معه فيروسات موازية أكثر فتكاً بالفرد والمجتمع، تنتشر على الشبكات وتتمدد، تولّد مشاعر تفتح أبوابًا للأيديولوجيا الرجعية، التطرف الديني وقوى السوق الظلامية كما قوى المؤامرة. حتى أن بعض المحللين الاميركيين اليساريين قالوا إنه لو لم يكن أليكس جونز موجودًا، لكانت الاستخبارات الأميركية خلقته.
طيفيّة، افتراضيّة، وبائيّة
الشروط الرأسمالية وعصر الانثروبوسين (Anthropocene) الذي انبثق منها هي المسببات الرئيسية التي أدت إلى انتقال فيروسات تحملها خفاشات وخنازير وطيور منذ القدم إلى البشر اليوم. هذه المسببات أدت بدورها إلى اختراق الفيروسات الشبكة البيولوجية البشرية (لا داعي لأن نتخيل ذوبان جليد البرمافروست "permafrost" وخروج فيروسات "عملاقة" منه).
رأس المال أيضاً هو فيروس، وأشار إلى طبيعته الفيروسية ماركس وإنجلز في المانيفستو: "وحاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، متسع باستمرار، تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تُعشش في كل مكان، ومن أن تنغرز في كل مكان، ومن أن تقيم علاقات في كل مكان."
يقول الكاتب جوست فان لون، Joost Van Loon، في كتابه "الخطر والثقافة التكنولوجية" إن الفيروس في عالمنا المعاصر هو "رسول لنهاية العالم". فالفيروس لديه "دافع"، مقارنة مع الإشعاع الذي يلوث ولا يتكاثر، الفيروس يحتل الجسم ويتكاثر من أجل "احتلال" الجسم وامتلاكه. وفيه حركة تجعله ينتقل ويتكاثر من أجل احتلال أكبر عدد من الأجساد.
في "عدوى" كما في كارثة الكورونا التي نعيشها كما مع أي وباء اخر، المشكلة هي الخفاء، فالفيروس يعمل ويتكاثر ويحتل بعيداً عن الأنظار، ينتقل في الفيلم من قارة الى أخرى ويصيب ويقتل الآلاف قبل حتى أن يعرف البشر بوجوده.
هذه هي ايضاً "الخاصية الطيفية لرأس المال" حسب تعبير جاك دريدا، وهيمنته المتخفية وراء المؤسسات والبنوك والسلع - الطيف الذي يدير علاقاتنا الاجتماعية والحركة الدائمة التي هي ضرورة لإعادة إنتاجه. هذه "الشطارة" الرأسمالية يصفها الفيلسوف الإيطالي الشيوعي بيفو بيراردي بوضوح: "عندما تحاول البحث عن الطبقة المالية، لا يمكنك التحدث مع أحد، فلا تَفاوض ولا معركة مع العدو. ليس هنالك من عدو أصلاً، لا يمكنك التفاوض مع أحد. لا يوجد سوى آثار حسابية، سوى تسلسلات اجتماعية أوتوماتيكية لا يمكن تفكيكها أو حتى تجنّبها. يبدو النظام المالي غير إنساني ولا يرحم، هذا لأنه ليس بشرياً وبالتالي لا يمتلك تلك الرأفة". ألا يشبه هذا الوصف حالنا مع الكوفيد-19 ويبعث فينا المزيد من القلق؟
في "عدوى"، يقابل رأس المال رمزه، أي الفيروس، كممثل يقابل في كابوس الشخصية الحقيقية التي تلعب دوره. في هذه المعركة الملحمية تنتصر الرأسمالية قاضية على الفيروس بعد أن ينجح الابطال الغربيين البيض في الوصول الى لقاح. والنتيجة؟ لا أثر لنهاية الرأسمالية، ولا نهاية للعالم!
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة