يسرّنا أن نودع بين أعصابكم هذه المراجعة البحثية لملحمة الدكتور لاغوت الميليغيوي "التمساح في الشرنقة" الصادرة حديثا عن "دار رحلة لفك حالة التسطيم دون أي مقابل أو بديل". نشكر الدكتور على ملاحظاته وتنقيحاته العبثية لهذه المطالعة ونذكّر القراء اﻷعزاء أنّ الدكتور الباحث كان قد سبق وحل ضيفا علينا في العدد الثامن من رحلة (اشتبك لتكون في وسط الصورة). بعد عناء طويل مع ضيفنا القديم الجديد واستعصاء لفهم لغته، تمّت الاستعانة بفريق تشريح اﻷلسنيات من فيلق التدخل البطيء في رحلة، وهو الجناح المسلّح بالصّبر وبالصبّير في أسرة التحرير والمختص بأساليب تفكيك وابل الألفاظ المنقطعة القيد بعد سقوط فروع بنوك برج بابل لتصليح الشاشات والراديوهات ش.م.ل.
بدأ الفريق بالتمعّن بماورائيات الحسابات اللغوية المشبوهة المشكوك بأمرها وبتحميص اﻷسماء في أفران حرق اﻷفعال، ثمّ بالفحص الدقيق لأعمال الطحن الممنهج للهويات الوهميّة والمسارعة بدلق الدم على نار الحروف الهجينة للتمحيص بأماميّات الكوارث المنتظرة للكلمات المُنتشرة هباء في أرجاء الوطن المنتوف. وقد تمّ، بفضل هذه المعالجات المتتالية، تحقيق خرق أولي لمنظومة العصب المخيّ للدكتور تسهيلا للشدّ والمدّ وفكّ عقد التنتيع والتربيع على كل العصي من الجبل الى البحر مرورا بالوادي، كما تمّ التوصّل وبفرح عظيم إلى عدم الفهم بالخالص، وشكرنا الدكتور على بساطته المعتادة التي أمّنت لنا الحدّ اﻷدنى من المعايير والشروط التجريبية السفلية الحرة في التعاطي مع التخيّل والمخيّلة باحترام وتقدير تماما كما مع سفالة الفهم ونذالة حسن المفهومية.
كنا جدّ سعداء ﻷننا تخيّلنا أننا ولو لمرة كنا قد فهمنا شيئًا عليه، لكن وما ان عبّرنا له عن هذا الشعور حتى استشاط غيظا ونفر من لغتنا المشاعرية الهوجاء ومن شرقطة كهرومغناطيس المنطق السهل المُمتع الظاهر له كما قال في تنك جماجمنا المسطولة، فأصابته الرجفة وتلبّك جسديّا فسحب من مؤخّرته شريطا كهربائيا وصله بأذنه وعضّ على قلمه منتظرًا انسحابنا من المقابلة.
خرجنا فورا معتذرين، لم ينبت بشفة، لا بل كدش القلم وبدأ بمضغه. استعجلنا بإرسال المراجعة له خطيًا، أجابنا بعد فترة بملاحظات وتنقيحات أعدنا ترتيبها وجمعها بنصّ مبسّط، بعد موافقته ولو على مضض طبعًا، كمدخل نظريّ للولوج في ملحمة "التمساح في الشرنقة" وللخروج منها كالفراشة من المجرور.
تعالج ملحمة "التمساح في الشرنقة" حالة ووضع التمساح المنتصر المرتبط عضويا بحالة ووضع الفراشة المنهزمة وذلك بسلاسة وبشعرية مسترسلة في شبكات الصرف النقدي دون الدخول بتفاصيل التحولات الجنسية ووضعيات التجامع الوحشي لتوليد التدبيق الجدلي التفاعلي المركّز على منصّة إطلاق العنان لفحش الحوالات بعد التريّث في تنويم مشاعر الشخصيات ومسح سوسيولوجي للواقط التكفير إذ أن مفهوم التفكير المبدئي يغري ببلاش كما يشرح الدكتور ولا تخشّ النفعية في المعادلة إلا بعد سطوع فجر التبسيط المجرّد من أي بساطة، وهنا يأتي دور الحيوان الرافض المشاكس الصامد في الظلمة الحقّة، القابض على أوقات غروب البديهية، المنتظر المتحيّن فرصة الانتقام من فعل المشي بكرسحة كل اسم طائر بالفعل الهابط. أما وظيفة الشرنقة فكانت فقط للضرورة الآنية بالمبيت، فأين تريدون أن تنام الفراشة المستقبلية الطائرة غدا إلى المجرور حيث البكاء وصريف الأسنان؟ هل في جهنمّ دموع اﻷطفال المشرّدة اللاجئة المتحولة في عيون التماسيح المشهنقة إلى متاحف لجنّات جلود الوجوه المسلوخة من الضحك للعبس والتكشير بخلقة المفنّد اﻷعظم لمراحل هرطقة التحولات من فعليّة معلومة إلى إسميّة مجهولة ؟ لا، يتابع الدكتور، قطعًا لا ولن، لم يحن الوقت بعد لفلق الرأس بحبة القمح، المرحلة في الهاوية هي لبّ الملحمة ويجب التعاطي معها بميكانيكية الماء المحرّك لحجر الطاحون. يجب التفكير بتغيير طريقة وكيفية اهداء الهزيمة للمنتصر إذ هذا ما سيصنع طريقة وكيفية انتصاره على المهزوم، فروقوا علينا قليلا وعيفونا من اللغة النسقية المستعجلة على هزيمة تزيدنا انهزاما، اتركونا ننهزم على طريقتنا وبلغتنا علّنا أقلّه نخرّب ولو صوتيًّا فصول متعة المنتصر وحرقة المنهزم على السواء.
بعد استطراد شعري طويل يقارب حوالي ١٠٤٥٢ لفظة صوتية مخترعة، يعود الدكتور وبقفزة أدبية انتحارية إلى الذاتية الصرفة وإلى مضغ ماضيه التعيس وخياراته المشربكة التي لا تقدّم ولا تؤخّر أي شيء للمجرّة غير الانجذاب صوب الثقب اﻷسود الدائر في رأسه للانتفاء، فيبلع ما يستطيعه من أفكار ليحميها في الداخل خوفًا من الخارج، ومع أنه يعرف مسبقا عدم جهوزية اﻷمعاء اللغوية لهضم هكذا نوع من كلمات طنانة متربّعة على عرش التحليل والتعليل، مزاوجة للشك بالنقّ المطلق على الحنجرة والفك الطافش بالكلام النيء المستسهل المصاب بالاسهال الفلسفي الذي لا يستأهل إلاّ التّسليم بالهزيمة والاعتراف الضمني بانتصار من حسم المعركة والعكس بالعكس صحيح، فبالتالي وكلّ بحسب تموضعه في المعادلة سيباشر بتفكيك منظومته الفكرية وبإعادة ترتيب كلماته لينحت بها جسد اللغة المنتصرة من جهة أو جسد اللغة الخاسرة من الجهة المرادفة. لغتان جديدتان تنعمان بالتعايش والتناغم التام في جوهر الواقع المتداول بثباته أو بتقلّباته بين المصارف والصّرافين، أمّا بالنسبة لبورصة التموضعات المتناقضة، فهي بحت شكلية كي تحافظ العقول الحربجيّة ومن مختلف الميلات على منطقها المعتاد على الجنون للجنون فقط ثمّ التلطّي غصبًا وبمتعة احترافية وراء قضايا ومفاهيم ومصطلحات سعرها بالدولار بالكاد يغيّر نعلاً، إذ أنّ قيمتها لا منها ولا فيها، تمامًا كالقيمة الانسانية المهزومة حتمًا ودومًا في لبنان المنشود من الفكرة الى الواقع إلى الحلم، لا شيء فيه يُلحظ غير الغياب والعدم، غير البهدلة والقتل والتنصيب والترويج للانتصار وللهزيمة بالمداورة والدوران في تاريخه المطرود والركمجة على الدمّ للسقوط مجدّدًا واللبص على هويّته الوهميّة من اﻷساس وخذوا كلوا تخبيصات الحريّة.
كلّ المجهود الفكري المعتمد من الدكتور للخلاص الملحمي من ورطة الترداد والتكيّف مع حتميات الطغيان يتلخّص بتشكيل جسد جديد للغة الهزيمة يستنفد بواسطة قوته الوهمية قدرة اللغة الغاصبة وتصميمها الواقعي على المزيد من الجنون للبطش ويدفع بها بديهيًا إلى ما أبعد من اللعبة التي هي السبّاقة فيها كونها واقعيًا المُنتصرة، إلى تحقيق انتصارات فعلية على مخلوقات وهمية، فمهلاً يا خواجات التثقيف بالتسليم بالهزيمة، فلنأخذ كل وقتنا المنهوب إلى الخندق ولنعيد مساءلة الحمار عن لون الجزرة في رأسنا البهيم.
نعم، لقد هُزِمنا ومن زمان، من أوّل دولار نبت في رأسنا وفرّخ متراسًا إلى دم آخر شهيد سقط سهوًا من جسده في الكيان والصيغة والميثاق، مبروك لكم الطوفة بالمخّ الفارغ والطوفان بالجثث بدم بارد لتهوئة ديار العمّ سام عليه السّلام وعلى سائر اﻷقرباء وبنيهم من صكوك وحوالات في بنوك لبنان وفي المهجر، مبروك لكم يا مثقفجيّة فلع قشر البصل بماء العين المُتَمْسَحة أمام مشهد الصّرع الدماغي وخلوّ التكعيب من البعد الثالث بعد أن كَدَشته تيوس السياسة وسطّحت وبلّطت ما تيسّر بوجهها من بحور وشطآن وخلائق على صورة الله ومثاله، فرصّت صدى طنين أجراسها رصًا في المآذن لتبشّّرنا بالدولة المدنية وحقوق الانسان المخلوعة المطمورة تحت تاسع أرض في أمجاد العاصمة المشرّعة على الهباء للتفاوض مع الدببة المروّضة على نسيان حلمة بزّ أمّ الشرائع وعدل وعدالة أبيها كما وعلى دحش رماح قوانين الرجعية المسنّنة دحشًا في الدساتير وفي الأجساد المشلّعة من حروب لم تنته ووعود بالسلم على أشكال خرائط ملفّقة أو طرق وهميّة بأحسن اﻷحوال، لا بداية لها ولا نهاية، زربة بزريبة ثقافة القبول والخنوع والتسليم والرزوخ والتكيّف والتعوّد على وصف العيون باللابدة والعقول بالهامدة والقلوب بالفاترة والظهور بالمكعومة والرؤوس بالكادشة لأرض الوطن المطموس الفاطس المكبّل المزيّر المخطوف المُحتل من شلّة مخلوقات هجينة حاكمة شكليًا محكومة بتطبيق موضة ديموقراطية التوافق على قتل كلّ نيّة بالهدم للتجديد.
مبروك أيها اللبناني الفطحل المنتصر، يا أيها الراقص بالدولار على حافة التابوت، مبروك يا غرينغو، سندقّ لك مسامير اﻵخرة وسنعمّق بالدقّ كي يطقطق الخشب سمفونية الشواكيش المحتفلة بانعدام وجودك، يا أحلى جغل، يا أبهى بغل شموس، يا شببلك، الله عليك وعلى مرقدك يا أخو إخت العنز، يا سنكوح، يا فركوح، يا فاتح قجّة الدنيا ومفجّر اﻷفق بآمال دكّ الحدود، يا سلبوط على الخلائق والملكوت، يا أيها الدابك مع اﻷساطيل والطوابير، يا أهضم ملفّق أساطير، يا خرندع، يا فصفوص المجرّة، يا نجمة النفاق، يا حالق الحق على الناشف برواق، يا أيّها المُفَيْنَق، يا أيّها المُخصّب، يا ذا الذي أينما نَكُبّك واقفا تصل وتهرول عائدا لتقرطنا، مبروك لك، مبروك لك موتك القريب اﻵتي حتمًا، سنجنزّك عراة ونشدّ على عوراتنا ونُهَوْبِر بها ضاحكين لهزيمتنا، سنهتاج وننكح الكلاب الشاردة وفاء لذكراك، سندعو عليك من بعد مماتك لمماتنا، سنكتب الوصية ببند واحد: يرجى النبش الدائم لقبرك اللعين والتمتّع بتحلّلك العضوي النهائي والتأكد من الإتمام على كل شيء منك وفيك، من بدايتك إلى نهايتك، من خلايا جسدك إلى خواء لغتك.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة