كنا مجموعة طلبة صغار يوم دخل قاعة التدريس أحد النظار العامّين في المدرسة، ليسأل كل طالبٍ عن أحلامه اللاحقة. كانت الإجابات روتينية تحمل على أكتافها أحلام أطفالٍ لم يدركوا بعد، مدى صعوبة تحقيقها، كما قال المتنبي في قصيدته الشهيرة عقب تبلّغه نعيه أمام سيف الدولة الحمداني:
ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركهُ \ تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
هكذا كانت أحلامهم، أحلام الفتية الصغار: طبيب أسنان، مهندس، أستاذ، صاحب شركة.... إلّاي، فحين أتى دوري قلت: حلمي أن أقوم بثورة.
أثارت إجابتي ٱستغراب الناظر، فسألني: عمّو شو عم تقول إنت؟ إنت عارف شو يعني ثورة؟ ثورة عمين؟
لم أجب وقتها سوى بالتالي: ما بعرف عمين. بس بدي أعمل هيك ثورة كبيرة كتير.
فعلياً لم أكن أفهم ماهيّة الثورة وتفسيرها اصطلاحاً، ولا حتى كيف تحدث ولا كلّ هذه الأمور، كلّ ما كنت أعرفه وقتها، هو أنّي قرأت هذا المصطلح في مقال صغيرٍ عن الثورة الفرنسية في موسوعة المعرفة التي كان خالي يعيرني إياها. لا شيء سوى ذلك.
كان من المفروض أن تنزل صورنا وأحلامنا في كتيّب صغير تطبعه الإدارة العامة للمدرسة، بالفعل حصل ذلك، لكن صورتي وحلمي لم يدرجا في الكتاب. كلامي أرعبهم.
رفضت إجابةً روتينيّة فتركوني دون حلمي، لكنّ "ثورتي الكبيرة" بدأت صغيرة من تلك اللحظة.
كبُرتُ وكبُرت ثورتي الصغيرة معي، تعرّفت أكثر على مفهومها وتعاريفها من خلال كتبٍ ٱستعرتها من مكتبة المدرسة، قرأت عن عدّة ثورات، أسبابها ومظاهرها ونتائجها، تأثرت بشخصية المهاتما غاندي وبثورته السلبية لأجل ٱستقلال الهند (عكس رفاقي الذين اقتدوا بغيفارا، وقتها لم أكن أؤمن بالعنف الثوري لسبب شخصي جداً وهو نحول بُنيَتي وعدم قدرتي على القتال، لاحقاً تغيّرت آرائي).
كان عليّ التمسّك بثورتي حتى النخاع، إذ ليس بالضرورة أن أقف في الساحات وأصرخ، أو أن أحمل السلاح وأقاتل لتنطلي عليّ صفة "الثائر"، بل يمكن أن يكون رفضي لتناول وجبة البازلاء نوعاً من الثورة، هذا لأنّني لطالما ربطت فكرة الثائر بالرفض أولاً قبل أيّ شي آخر.
هذا الرفض كان له عدّة أوجه خلال أعوامي ال 25، رفضت مدرّسة اللغة العربية في صف البروفيه، وقمنا بثورة لأجل ذلك، رفضت نقلي لثانويّة أخرى لإدخالي القسم الأدبي، وقمت بتحدي الإدارة ودخلت القسم العلمي في البكالوريا قسم 1، رفضت ٱحتكام كليّة الحقوق للمحسوبيات السياسيّة وقررت مغادرتها والتخلي عن حلمي بأن أصير محامياً.... وهكذا كانت حياتي القصيرة عبارة عن سلسلة طويلةٍ من الرفض ومحاربة المفروض، ألا يستحقّ ذلك أن يسمّى بالثورة؟
إن الدارس والمطلع على تاريخ البشرية جمعاء يجد أنّ كبرى الثورات إنّما قامت بدافع الرفض، فالثورة الإنكليزية بين 1642 و1660 كانت بدافع رفض البرلمان للحق الإلهي في الحكم لدى الملك، والثورة الفرنسية بين 1789 و1799 التي رفضت فكرة "الحق الإلهي" للملك في الحكم ولسياسة التبذير التي ٱنتهجتها حاشيته، وأيضاً الثورة العربية بين 1917 و1925 ، والتي قامت رفضاً لسياسة التتريك التي ٱنتهجتها الدولة العثمانية للعرب في أرجائها.... وهكذا من فجر التاريخ وصولاً لليوم، لم تكن لتقوم ثورة لولا رفض حالة مفروضة من قبل فئةٍ على أخرى.
الشعر نفسه عاش ثورات عديدة، يكفي التطرق لثورة الشعر الحديث التي أفرد لها عبد الغفار مكاوي كتاباً كاملاً، بدأه بعصر ديدرو وتنظيراته في الصالونات، وظهور المدرسة الرومانسية التي كانت حركة مضادة للثورة الصناعية في أوروبا وقتها، وكذلك ظهور شذرات نوفاليس وقصائد بودلير النثريّة الصغيرة، وما حصل من صراعٍ خفي مضمرٍ وقتها، بين الحداثة والكلاسيكية مع ظهور مالارميه ورامبو، وهكذا وصولاً إلي شرعية قصيدة النثر من عدمها، التي هي بلّورة ثورية نظراً لرفضها الموروث الشعري التقليدي الذي تجسّد بالكلاسيكيّة التصويرية القديمة والكلاسيكية القائمة على النظم، حتى أنّ عبد القادر الجنّابي وصفها "بالأفعى بلا رأسٍ ولا ذيل"، والثورة أيضاً، بلا رأسٍ يمكن مقارعته ولا ذيل يمكن سحبها منه، وهذا مصدر قوّتها.
ما يحصل اليوم في أنحاء لبنان هو رفض أيضاً، رفضٌ ربّما هو مكنون لدى كافة الشرائح اللبنانية منذ أكثر من ثلاثين سنة، غير أنّه تأخر في تبلوره تماماً حتى أصبح ثورةً بمعنى الكلمة، فالطبقة السياسية اللبنانية والتي أفرزتها الحرب الأهلية تمادت بأفعالها حتى تفجّرت النقمة اللبنانية في كافة المناطق عليها، بالرغم من أنّ هذه الثورة اليوم انتقلت لمرحلتها الثانية وباتت مطالبة بتنظيم صفوفها وبدء التحضير لمرحلة ما بعد السلطة القائمة، فالثورة مهما اتسعت قاعدتها في طبقة البروليتاريا لا بدّ أن تبدأ شيئاً فشيئاً بانتخاب ممثلين وناطقين باسمها من مثقفيها ومتعلميها...
ربّما ما رأيته طيلة حياتي من ظاهرة الرفض، تاريخياً، قد ألجأ يوماً لتأليف كتابٍ بعنوان: "تاريخ الرفض"، وأزينه بالعبارة التالية: "يكفيك الرفض ليقال عنك ثائر".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة