"ماذا هناك، حيث ليس هناك أي معنى؟ يبدو لي مجرد جنون أو هراء. هل هناك أيضاً معنى فائق؟ هل هو معناك يا روحي؟ أعرج خلفك على عكّازين من الفهم"
كارل غوستاف يونغ، الكتاب الأحمر، ص١٤٣.
ربما ٱعتدتم على الغروب بصفته مشهداً رومنسياً، ومنصةً ل" هل تقبلين بي زوجاً لك؟" وكذا، يجلسون خِفافاً على الميناء، تميل رأسها إلى كتفهِ، فليفّ ذراعه حول خصرها، يلتفتان لبعضهما، يقرّبُ وجهه من وجهها+ ٱحتكاك بصري عنيف، يقترب بنسبة ٨٠٪، وتبقى ٢٠٪ من المسافة لتبدأ هي العد التنازليّ: ٢٠٪..١٠٪..٣٪..١٪ ثم: إقطعْ. ليس هذا ما نتحدث عنه، ولست هنا للتسلية، إذهب شاهد تايتانك ونم. الغروب هنا قاسٍ قليلاً بعدُ، الغروب هنا فرار الضوء، إطباق شديد للعين بمسمارين، ذهاباً في الحلكةِ إلى مكانٍ أفضل، وفي أضعف تقدير، إلى ظُلمةٍ مبتغاة.
ماذا يعني الجلوس في الظلمة؟ كيف يحصل هذا؟ ما معناه؟ هل هو الموت؟ اللاشيء؟
" ننزلقُ إلى الٱنحلال في اللاشيء وهذا هو موت المخلوق، لذلك نحن نموت إلى المدى نفسه الذي لا نتمايز فيه" يونغ. من هوية الظلمة ألا تميزَ الحدود والأشكال والأشياء، فوجب عليه، لكي تقع عليك صفة المخلوق أو تقع أنت عليها لا مشكلة، فعلاً وفاعلاً، أي وعي الخلق، أن تتبين الٱختلافات والمختلف، إن كانت متمثلة بطبقة فاسدة حاكمة تضعها نصب عينيك حتى حين، أو كان حبيبك.
انقطعت الكهرباء؛ تقفُ أمام جدار الغرفة المعتمة، أَتَعلَم، يستحيلُ هذا الجدار إلى أشياء عديدة، ملمسُ العتم (العتمة مؤنثةً، في المعجم هي بنت الشيطان) متروكٌ للمخيلة؛ فجميلاً قد يصير الجدار، وفي أحيان كثيرة، سرداباً لا آخر له، العتمة توسيع للحواس.
ولنختصر قليلاً هنا الطريق الواسعة بأخرى فرعية، ولنتكلم قليلاً، أو فليحدثنا أحد عن منتجات العتم، ألا وهو العمى.
أفكر بهذه الكلمة، العمى هو فعل الظلام في بصيرة الإنسان، وبصراحة إن أول ما يخطر في بالي عنوان رواية ساراماغو، "العمى"، تفكيراً حاملاً لإسقاطات شديدة التماس مع الواقع؛ فالعمى عنده مُعدٍ، يبدأ من شخص وينتهي بشعب/ توظيف السلطة لأي شيء، والعمى ضمناً.. ظلام العمى يعرّينا لنصل حقيقتنا الهشة والضعيفة. هو "الظلام الحارق".
ولا أدري هنا هل أقتصر على مراجعة الكتاب، منهجاً وأسلوباً في سيري، أم أكتفي بذكر الجوهر وأدعه يلتصق بفعل حرارة الأحداث بالأرض! لكن أليس هذا هو العمى الذي يصدّرونه لنا، بما هو تخدير للرؤية، بسياسات التشجيع على رؤية شيء دون آخر، أو إقناعك بأن رؤيتك لمنظور محدد هي الرؤية الحقيقية وفعلها. الخراب مرئي من كل الجوانب. ولا أدري كيف أنه أحياناً، يختلط ٱنطباق الكلام على المحليّ والعالمي، ربما كان الٱستشهاد أقلّ وضوحاّ نظراً لكثافة الرواية وضيق الأسطر، ولذلك أستبدل مجدداً بناء مشهد ملائم بنفسي، بأن أعرض مسرحية تكاد تكون مكملة لسيناريو رواية ساراماغو، وهي أكثر ٱلتصاقاً بنا.
من هو البصير ومن هو الأعمى؟ الأعمى هو الشخص الحقيقي، سيقول صاحبنا الآتي ذكره، على لسان بطله. " الوهم بالوضع الطبيعي" هذا ما نعيشه كعميان فعلاً، تخبركَ شخصيات مسرحية "الظلام الحارق" لأنطونيو بويرو باييخو، وذلك عبر ظهور الشخصية الرئيسية الأولى إلى مشاهد المسرحية، بٱمتعاضه من كيفية سير الأمور كذباً، في مركز يبعد نزلاءه عن حقيقة العمى، العمى كرمز "لمحدودية الكائن البشري"، فهل هذا هو مصيرنا نحن حقاً؟ هل ما نمرّ فيه نستحقه عن جدارة؟ نسمع هذا كثيراً، وقد يكون صحيحاً، لكن ذلك لا يعني أن ترمي عصاك التي تتلمس بها الطريق ظنّاً منك أنك تحررت، وربما كانت هذه إحدى طرق التجول في الظلمة عند هذا المسرحي، كما يفعل "إغناسيو" بطل المسرحية، الذي ٱنتهى بأن يتقبل تمرده، معتنقو العمى. ألّا تخشى ولا تخجل مما ترى ويتراءى لك فيها، ولو بشكل أوديبي، بمعنى أن تعميك الحقيقة مهما بلغت من فظاعة وتراجيدية، ف"جميعنا عميان..لسنا أحراراً ولا نستطيع أن نعرف تلك الألغاز لأننا نعيش في مجتمع قائم على الكذب. ص١٩".
كما ترى صديقي، لم أستطع قول كلمة واحدة تخصني بعد، كثيرون نزلوا إلى اللجّ وسبقونا، وربما تمحور الأدب كله -بما هو وثائق نفسية وروحية وعقلية- حول هذا الغوص الرهيب في الأعماق، المهولة منها خصوصاً.
"الأدب لا يتركنا نعيش من دون إدراك الأشياء ضمن أفقها الأكثر عنفاً" يقول في أحد مقابلاته، مؤلف "الأدب والشر" جورج باتاي، فالأدب على حد تعبيره "هو ما يجعلنا نواجه الأسوا، ومعرفة كيفيةِ مواجهته وتخطيه.." بهذا المعنى، فالكُتّاب مذنبون، والكاتب يدافع عن نفسه بٱعتبارها مذنبة، وأضيف أنا: القراء أيضاً مذنبون، النزول في العمق، يتطلب ذنباً شجاعاً، عليك ٱقترافه لتصل.
أيّ الطرق أفضل للوصول في حلكة كهذه؟ أُشعِلُ سيغارةً أخرى محاولاً تخفيف تداعيات فكرة أن أناساً الآن عالقون تحت أنقاض ويستصرخون في العتمة من ينجدهم، هل يصرخ الشخص تحت الردم؟ وكيف يكون شكل صوته؟ هل يعلق الغبار على صوته، وهل يتجرح الصوت بفعل الزجاج؟ أو يفعل كما فعل أصحاب "رجال تحت الشمس" لكنفاني، هل لتلك الأسباب، لم يدقوا جدران خزان المياه الذي يهربهم عبر الحدود من خلاله؟
على الأقل لن أتساءل بحيرة وأسى:" لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ ص١٠٩" فالناس هنا لا تموت من الحر أثناء تهريبها عبر الصحراء، لقد أصبحنا نموت هنا من كل شيء، وربما ما بقي مشتركاً بيننا جميعناً، أننا، مثل أصحاب الخزان، حامل عتمتنا الحارة الحارقة، يقتلنا ٱنقضاء الوقت المارّ علينا داخل مِحنتنا، في حين أن من يُفترَضُ بهم إنقاذُنا- ما دمنا وكّلنا غيرنا مهمة إنقاذنا- يلقون بالنكات السمجة، فنموت نحن من الضحك على شر البلية!
على كل، لا بأس يا أصدقاء، دقّوا جدران الخزان بعنف، دُقوا وٱقرعوا من داخل العتمة، فإننا نموت.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة