لم يكن عمره جاوز 62 سنة حين قرر، في 1961، أن يطلق من بندقية الصيد رصاصته الأخيرة على حياته وتاريخه الأدبي الحافل بالكتابات، أشهرها تلك التي كتبها بين الحربين العالميتين وخلال الحرب الأهلية الاسبانية على غرار "وداعا أيها السلاح" و"لمن تقرع الأجراس".
مأخوذًا بسحر الحرية في فرنسا والذي بدأ يخبو في الولايات المتحدة، سافر إرنست همنغواي لينضمّ الى رابطة "الجيل الضائع" بين حربين وقارتين.
يتميّز همنغواي عن كتاب جيله بكونه صحافيًا فاشتغل بصحيفة كنساس سيتي ستار ، وعسكريًا فعمل سائق سيارة إسعاف، قبل أن ينعطف نحو درب الكتابة الأدبية وتدوين كل ما عايشه.
حالة ضياعه سردتها تجاربه العاطفية المتنوعة والمهنية المختلفة وسفره بين المتضادات من أمريكا إلى كوبا وصولا إلى أفريقيا في بحث عن السكينة ربما وعن التجربة أيضا.
كما باحت كتاباته بتمزّقه ورغبته في نقل الحقيقة فيقول في رواية "وليمة متنقلة" التي نُشرت إثر موته:
" اكتب أصدق جملة تعرفها، في النهاية سأكتب جملة حقيقية واحدة وأمضي قدمًا في الكتابة، سيكون الأمر سهلًا بعد ذلك، لأنه دائمًا ما تكون هناك جملة حقيقية أعرفها أو رأيتها أو سمعت أحدًا يقولها."
الكتابة الأدبية لديه كانت لحظة صدق إنسانية حقيقية وبعيدة عن التعقيدات اللغوية. شهد على حروب عدة من العالميتين إلى الحرب الأهلية الاسبانية ثم الباردة، ووصولا إلى تلك التي كانت تندلع داخله كلما ود الكتابة من جديد.
وهو الكاتب الواقعي الذي زاوج بين الأسلوبين الصحافي والأدبي، وعبر عن تشرذم جيل عايش عبثية الحرب ودمارها، وعن صمود الشعوب واستبسالهم خلالها. هي وضعية تشابه أجيال ما قبل التكنولوجيا وبعدها في ضياعهم.
يروي إرنست همنغواي في المتحف المتنقل كيف ولدت العبارة فيقول إنه ذهب يزور الكاتبة الأميركية جيرترود شتاين في بيتها في باريس فأخبرته كيف صرخ الميكانيكي مؤنبا أجيره "إنكم جيل ضائع" ثم خاطبته "وأنت أيضا أنت جيل ضائع."
ويبدو أن وقع الوصف أثر في إرنست ليكتشف يأس جيل اقترن ماضيه بالهزائم والمجهول وهو أحد أهم دوافع انطلاقه في الكتابة.
اذًا، كان همنغواي في عديد فيلق أدبي محبط من التقاليد، رحالةً ظاعنًا يهوى السفر الطويل فلا تعرف له مستقرا إلا في ربوع رواياته.
ثم إنه راح في أواخر الثلاثينات يصف آلام شعوب حطّمت الحروب آمالها. وخلفت لديها انفلاتا تاما من كافة الضوابط، بعد المجازر التي ارتكبت في حق الانسان والانسانية والتاريخ. ونقل للقارئ انبثاق وعي جمعي سياسي ورغبة في بناء ما تم تقويضه.
أما في فن الأقصوصة فقد خط قلمه كتب ثلوج كِلِمنجارو ضمن المجموعة المسماة التاسع والأربعون.
دق جرس الانذار خلال الحرب الأهلية الاسبانية عند انتهاك الحرية التي يعتبر ضياعها في أي مكان دعوة إلى الاستنفار والمقاومة. وهو موقف عبر عنه في روايته لمن تقرع الأجراس.
ميالًا إلى مصارعة الثيران والصيد وركوب الخطر، كانت مغامراته ضربا من محاولات الهروب والبحث عن معنى في ظل كل ذلك الخراب المحيط.
من الأراضي الكوبية كانت احدى أشهر كتاباته الشيخ والبحر، عن صياد كوبي عجوز حاز بها جائزة بوليتزر عام 1953، ووصفها لاحقاً بأنها شعر كتب نثرًا.
لم يتبنَ همنغواي غير الانسان قضية، فهو من الأدباء الأميركيين القلائل الذين لم تكن لديهم مواقف معادية لكوبا حتى بعد الثورة الكوبية. وهو ما وثقه في فيلم. فرغم العلاقات الدبلوماسية المبتورة بين كوبا وأميركا، قرّر المخرج بوب ياري التوجه إلى كوبا لتصوير فيلم يتحدث عن سنوات الكاتب الأميركي إرنست همنغواي.
ومثلما كانت مواقفه استثنائية، كان موته أيضا استثنائيا. فبإرادته ومن دون انتظار، أنهى رحلة الضياع والفشل ربما في الحب والحرب. أو لعله ولج إلى إحدى رواياته حتى صار بطلها، هو الذي حمّل أبطال كتاباته أوزار القسوة واليأس والعنف والتعب والاستسلام... تلك المشاعر المختلطة في ساحات الوغى.
الضياع لم يكن حالة وجدانية وإنما هو سردية لها مبرراتها الموضوعية وحججها المنطقية التي شقّت مسارا فكريا ترجمته كتابات المنضوين تحت لوائه.
قضى أحد أفراد الجيل الضائع وفي رصيده كتابات عديدة حتى اعتبر أحد اعمدة الأدب الأمريكي منها "ثلاث قصص وعشرة أناشيد"، ثم تلاها العديد من القصص والروايات، أشهرها قصص: "رجال بلا نساء" في 1927، و"الطابور الخامس" في 1930، و"الفائز لا ينال شيئا" في 1933.
أما الروايات فأهمها "وداعا للسلاح" في 1929، و"الموت بعد الظهر" في 1932 و"تلال افريقيا الخضراء" في 1935، و"لمن تقرع الأجراس" في 1940 و"رجال عند الحرب" فؤ 1942 ، و"عبر النهر نحو الأشجار" عام 1950، و"الشيخ والبحر" في 1952، و"وليمة متنقلة" التي نشرت سنة 1964.
عن الحرب وهواجس الإنسان إثرها، كتب همنغواي، أو كما يلقب ب"بابا"، رواياته بأسلوب بسيط وعمق في الكتابة لتكون جائزة نوبل للآداب من نصيبه في 1954.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة