يُقدّم عالم اليوم الكثير من المُنتجات التي نجدها تتراقص أمام أعيُننا أينما حطّ رحالنا. وفي عالم شبكات التواصل الاجتماعي في شكل خاص، بات العالم بازارًا كبيرًا. أين ما حلَلت تجدُ إنسانًا يُريد أن يَبيعَك أو يشتري منك شيئًا. في البَيْت والشارع، في العمل والتلفاز وتطبيقات الهاتف، حتّى نومك يكون معروضًا للبيع في متجر للمفروشات. وحتى البشر، بأجسادهم وصحّتهم وملابسهم وأذواقهم وأيديولوجياتهم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، سلَع تُباع وتُشترى.
ثم وقعت الحرب على غزّة فغيّرت مفاهيم كثيرة. فإلى جانب الأجسادٍ والمباني والأحلام والتطلّعات التي تسقط فيها، يسقط الكثير من المفاهيم والأعراف والقِيَم في العالم. ويجد المرء نفسه في مواجهة مباشرة مع الموت، يُحال رمادًا في غمضة عَين. ويرى كيف يتعامل الناس مع موته، كيف يتحوّل العالم في ظلّ صرير الطائرات وتطاير القذائف والجُثث المُتحللة إلى معسكرين: واحدهما يقِف بصفّه، بينما يُحوّل الثاني موته إلى عرض مسرحي.
يعمل النظام العالمي من خلال اتباع سياسة رأسمالية متوحشة تقوم على فكرة نشر شركاته حول العالم، تلك التي تبيع منتجات صُنعت بِيدٍ عاملة رخيصة وأحياناً بجودة متوسطة أو سيئة لتُباع بأسعار باهظة مُبالغ بها، فقط لأنها تحت إسم "الماركة" الشائعة والتي تُضفي على من يقتنيها قيمة وهمية أو عُلوية كاذبة. ثمّ يزوّد هذا المال الطائرات الحربية بالوقود والقنابل بالبارود، وهكذا تكتمل دائرة الهيمنة والاستعمار والسياسة التوسعية للمُستعمرين.
منذ بداية العدوان المسعور على غزة، بل على ضمير العالم أجمَع، تصاعدت موجات المُقاطعة في العالم، مُقاطعة تلك الشركات التي ذكرناها سابقًا والتي، بشكل أو بآخر تدعم الاحتلال وتزوّد طائراته بالوقود. وككُل الأشياء في هذا العالم، وكُلّ الأفعال التحرّرية، تَجدُ من يُعارضها. ولهذه المُعارضة أشكال، بعضها يعمد إلى التسخيف وإلى التشكيك بفعالية الخطوة، والآخر يُريد هذه المنتجات والماركات، بل يعتبرها جزءًا من هويته. أو، بصريح العبارة، يعتبرها انتماءً لمحور الغرب المُتحرر. ولكن، تخيّل أن تبني شخصيتك على فكرة عدم مقاطعة ستاربكس مثلًا أو ماكدونالد في حين تنتشر صور أطفال ماتوا بسبب الجوع والحصار والحرب. في الحقيقة هذا مُدعاة للشفقة. أن ترتضي كونك عبدًا لشركة، تُحارب خيال، تُجاكر أطفال، أيّ شخصية هذه التي تبنيها؟
لن ندخل في عالم الأرقام، ولن نسأل كم تدرّ كل شركة سنوياً لدعم الاحتلال. في الحقيقة فإن الأمر أبعد من ذلك بأشواط. إن ثقافة الإنسان المُستهلِك بذاتها ضرب من ضروب تحقير الذات والهوية والنفس. أن تكون إنسانًا متلقّيًا لهذا الكمّ الهائل من الصناعات من دون أن تكون لك هوية رافضة وناقدة ومُقيّمة لكُلّ جوانب هذا الاستهلاك، من أجل نفسك ولا أحد غيرك، هذا هو عَيْن التشوّه.
في الحقيقة، ثمّة ثقافة عامة الآن يُروِّج لها من بعرفّون عن أنفسهم بأنهم "مُدربو حياة" (لايف كوتش) وانفلونسرز، أو المؤثرون. إنها ثقافة تروّج لاعتبار أن قيمة الإنسان هي في ما يملك، وأن هوية المرء تُحددها ثقافة تعتمد على الاستهلاك. حتى الكلامي منه. فلا يُمكننا أن نغض النظر عن أن ثقافة الاستهلاك لا تعني أن تقتني ساعة أو تذهب إلى المطعم الفلاني وتشارك في الترند الفُلاني، بل هي ثقافة عامة تفصل المرء عن محيطه. تستهلك فيها النصائح غير المرتبطة وغير المُثبتة وغير المعتمدة على أيّة معايير جمعية وثقافية واجتماعية، بل هي كالمُنتج المُستهلك، كقطعة الهمبرغر من ماكدونالد، مستوردة وجاهزة. أفكار مستوردة، غير مُنظمة، يبثها في عقول العالم أفعوان يملك كاميرا وهاتف. ماذا يعرف؟ كيف يقيّم؟ هل هو مخوّل لذلك؟ لا شيء من هذا موجود.
إذا هي ثقافة عامة، توهمنا بأن الأحداث بما تحمله من فجائع، والدم على وضوحه، لا يعنينا. توهمنا بأننا نستطيع فصل أنفسنا عن المعارك الدائرة من حولنا. إنما الإنسان أفكاره. وبعد هذا الدم شديد الوضوح والموت الذي تحوّل إلى عرض مسرحي، وبعد أن صرّح وزير إسرائيلي بـ "إننا نقتل حيوانات بشرية"، بعد كل هذا، لا يعود أهل غزة وحدهم المستهدفين. وتجد أن هذه الحرب تعنيك أينما كنت في هذا العالم. وأفول أصنام الحرية والعدل والديمقراطية يعنيك. إنها أحداث عُظمى تطال كرامة كلّ شعوب الأرض.
وبالطبع هذه الحرب تعنيك، وفي مُقاطعة بضائع الموت المُغمسة بالدم فعل تنتصر به لنفسك قبل أن نتساءل عن جدوى ذلك أو عن تأثير مُقاطعتك على مجريات الحرب أو إقتصاد كيان الاحتلال. لن تُغيِّر العالم، ولكن ليس لأجل أحد بل لنفسك وحدها، دَع مشاهد الجُثث المُتحللة هذه، والأبنية المُدمّرة والأشلاء والرماد، تُحفَر عميقًا في وجدانك، كما كانت رسومات الكهوف التي بقيَت لقرون. دَعْها تتسرَّب لفِكرك وروحك وأن تكون حُجّة على تقييماتك في ما بعد. دَعها تأخُذ حجم أهوالها، حجم الوِحشة فيها، لئلّا تُصدِّق بعد ذلك القِيَم الغربية. من أجل نفسك، لئلّا تكون دُمية في سوق. لئلّا تكون عبدًا لأيّ دعاية وأكذوبة ومُنتج. دَعها تأخذُ منك الاعتقاد بأن العالم ليس غابة، هو غابة. القانون الدولي كذبة، المُنظمات الدولية كذبة، المحاكم الدولية والأمم المُتحدة وجامعة الدول العربية كذبة، الملوك والتيجان والأُمراء والعروش كذبة، العالم مُجرّد خدعة كبيرة. وأن الذي قال عنك "حيوانات بشرية"، في أيّ تماهٍ استهلاكي معه ومع أفكاره وتعريفاته عن الحرية والديمقراطية والسلام، سيُعطيك العلامة الكاملة، 10/10. لكنهُ رُغم كُلّ شيء يراك "حيوانًا بشريًا" وتستحقّ أن تُقتَل. لا تنسَ ذلك، من أجل لا أحد سوى نفسك.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة