استعجلت إيزادورا دنكن (1877 - 1927) موتها. اكتفت بخمسين سنة من الحياة. تركت إنجازاتها في الرقص الحديث للمعاهد التي أنشأتها في عموم أوروبا وأميركا، وفي أيادي بناتها الست بالتبنّي. وبالرغم من أن إيزادورا هي "أم الرقص"، كما أطلِق عليها، لم يدم ذكرها مثلما بقيت تُعرف مارتا غراهام مجايِلتُها وبينا باوش من بعدها… وكيف سيدوم ذكرها وهي امرأة مستعجِلة!
نعم مستعجِلة. تمرّدت في سنّها العاشرة إذ تركت المدرسة إلى غير رجعة بعد أن ضاقت بها ذرعًا. شرعت في تعليم الرقص لأولاد الحي لكي تكسب قوتها بعد طلاق والديها ووقوع عائلتها في الفقر. أبوها مصرفي محتال وزوجٌ خائن. أمواج المحيط الهادئ على شاطئ سان فرانسيسكو علّمتها الرقص التعبيري الحر. حركاتها بزيّ يفضح أطرافها لم تَرُقْ للجمهور الأميركي "العفيف".
انتقلت إلى أوروبا. هناك استلهمت حركات الرقص من نساءً إغريقيات يعانقن إناء خزفيًا عتيقًا وهن يرقصن بأثواب فضفاضة. ومن وضعيات تلك النساء الزاهيات وحركات الأمواج الصاخبات، نحتت إيزادورا نمطًا حديثًا في الرقص وبنت عليه منهاجًا تربويًا، محطّمةً جمود الباليه الكلاسيكي. هي التي، على قولها، كانت في رقصها تجسّد "روح الموسيقى".
فنّها ألهم فنانين كثيرين من مصممي رقص وأزياء ورسّامين ونحّاتين… ومفكّرين أيضًا، فريدريك نيتشه نفسه كان من بينهم. كأن العالم بإيزادورا دنكن كان يشهد على "موضة" جديدة في عالم الفنون تلقّفها الأوروبيون ومن ثم الأميركيون الذين عادت إليهم إبان الحرب الكبرى الاولى.
موضة جديدة عززتها حياتها الشخصية بفضل تجرّؤها على كسر السائد في المجتمع أيضًا بأسلوب عيشها. فمن صدمة فساد والدها وخيانته إلى المشارفة على الفقر، واجهت الصبيّة اليافعة بغريزتها البقائية كل جمود في المدرسة والرقص الكلاسيكي كما سبق ذكره، فضلًا عن تزمّت المجتمع. أقامت علاقات حميمية مع الجنسين إذ كانت ثنائية الميول. وأنجبت ولدين من علاقتين خارج الزواج وتولّت تربيتهما. استهوتها الأفكار الشيوعية وسافرت إلى الاتحاد السوفييتي. فأثّرت بفنها على الباليه الروسي. ثم تزوّجت شاعرًا موسكوبيًا شابًا. ثم ما لبثت أن وجدت أن تلك الأفكار لم تتوافق مع تطبيقها في الواقع، ففضّلت العودة إلى الغرب مع زوجها الذي تبيّن أنه سريع الغضب ومعنّف، فتطلّقا.
وطئتها المأساة، هي المكافحة الناجحة المحبّة للحياة، عندما مات ولداها غرقًا في نهر السين عقب حادث سيارة وتلا ذلك موت طفلها الثالث الذي حبلت به لاحقاً، بعد أيام من ولادته. وبعد كل المآسي والإحباطات المتتالية قذفت بنفسها إلى حياة البذخ والإسراف. تراكمت عليها الديون حتى "شحدت الملح"، على قول عامي. لازمها قلّة من صديقاتها وأصدقائها في محاولة لانتشالها من حالتها المزرية، وحضّها على إنهاء كتاب مذكّراتها.
ذات يوم، ركبت سيارة فارهة إلى جانب سائق شاب، وحول رقبتها شال طويل كبير، رسومه جميلة منفّذة باليد. أقلعت السيارة السريعة. رفرف الشال في الهواء. هوى طرفه الحائم قليلًا. دخل بين أسياخ العجلة. التفّ حول محورها بسرعة كبيرة فاقتلع صاحبة الشال من مقعدها. طقّ رقبتها وسحبها إلى تحت العجلة. ماتت.
كانت تحب هذا الشال كثيرًا وترتديه دائمًا. ولم تحسب أبدا أنه سيشكل يومًا أداة قتلها. وكانت آخر همسة لها في أذن صديقة دنت منها قبل إقلاع تلك السيارة "أنا ذاهبةٌ إلى الحب."
عندما نقرأ قصة حياة إيزادورا دنكن بعيون معاصرة، نكتشف أنها أعلنت الحرب على السائد باعتباره "موضة قاهرة مسترسلة"، منذ طلاق والديها وبلوغها مع أخوتها عتبة الفقر. فتسلّحت بما اكتسبته من ممارسات فنية في كنف العائلة قبل الشتات، وشنت معركتها. واستهدفت فيها كل ما هو سائد اجتماعياً وثقافيًا بـ "موضتها" الجديدة الفريدة. وبدت أنها لم تكن تطمح إلى أن "ترقى" بهذه الموضة إلى السيادة والهيمنة، مثلما كان مصير كل جديد. فهي أعلنت رفضها للجوانب التجارية لعروضها، ولذا، كرّست نفسها للإبداع فقط.
من زاوية مسرحية، تُعَدّ حياة إيزادورا دنكن تراجيديا إغريقية بامتياز. بطلها الرئيس، على غير عادة، هو أنثى لا تهادن، وغريمها هو السائد المهيمن في كل الدهور. استغلّ هذا الأخير علاقتها الوطيدة بالرقص وإلهه ديونيزوس، فاستعان بكيريس، وهي شبه إلهة مسؤولة عن الموت العنيف والقاسي. استطاعت كيريس أن تستميل الشال الأحب على قلب البطلة بعد أن فقدت كل شيء، فقتلها شرّ قتلة.
الصورة: إيزادورا دنكن (تصوير: ارنولد غنته)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة