في زحمة الحياة، أو في زمن التحوّلات، تولَد شخصية "الغريب"، في الواقع حيناً وفي الأدب أحياناً.
الغريب - اللامنتمي هو كائن أبصرَ النور عندما أصبح واعياً على بعض الأسئلة المرتبطة بحقيقة مفادها أن محيطه يبدو غير قادر على إشباع رغباته بالكامل. يخشى الغريب ألا يكون العالم قد خُلق أصلاً لتلبية حاجات الروح الإنسانية. ملتزماً بتساؤلاته، يصاب بالقلق والإحباط ويخشى أن يموت وهو على هذه الحال.
قد يكون الغريب شخصًا عانى من المرض أو الصدمة عندما كان طفلاً، وأصبح منعزلاً غير راضٍ عن العالم الذي وجد نفسه فيه. فالإنسان المتمتّع بصحة جيدة (جسدياً أو نفسياً) يفكّر في أمور أخرى ويحيّد نظره عن الاتجاه حيث يكمن عدم اليقين. فبمجرد أن يرى الإنسان الحقيقة، كل هذا العبث والفوضى، لا يمكن للعالم بعد ذلك أن يبقى كما كان طريقاً اعتقدناها سالكة وخطوط منظّمة.
قد يكون الغريب نبيًا أو رسولًا أو إلهًا خرج في مغامرة إلى الصحراء حاملاً أسئلته بعيداً عن البشر، ثم عاد مع كتاب أو رسالة، معتقدًا أنها الجواب - الحقيقة التي يبحث عنها. لكن الغريب ليس شخصاً عبقريًا أو موهوباً، ولا يملك أي رسالة نبوّة ليشاركها مع الآخرين.
قد يكون الغريب رومانسيًا، يريد أن بختبر المشاعر العميقة في مشاهد الطبيعة والتجارب الشخصية، تلك المغامرات المقنّعة التي غالباً ما يختبرها في خياله. يتميّز عن الآخرين من حوله بعمق التجربة بدل الإفراط وتكديس المشاعر كما اعتدنا في عالمنا اليوم. ولكن، هل الهروب مفتاح الجواب؟
قد يكون الغريب شخصية في كتاب لهيرمان هسه، أو ألبير كامو، أو فيودور دوستويفسكي، يقبع في سرداب بعد أن لفظه المجتمع ولفظهم، أو متسكّع وحيد يجول على ضفاف النهر، يراقب المارة وحركات أجسامهم المنتظمة كالآلة ولباسهم الفاخر، يعاين تعابير وجههم المطرّزة بالمخمل وخلفَها أرواحهم المتهالكة.
قد يكون الغريب عدمياً. "الإنسان شغف لا طائل منه"، يقول سارتر. قد يكون الغريب يائساً. يكتب الرجل المنعزل في غرفة تحت الأرض: "كل شيء عبارة عن فوضى يستحيل فهمها" (دوستويفسكي). هكذا أيضاً يعبّر داميان (هرمان هسة) عن تجربته: "كانت حياتي في ذلك الوقت ضرباً من الجنون. كنت خجولًا، وعشت في حالة من العذاب كالشبح وسط سلام الرتابة في منزلنا"... يخلص إلى القول: "يجب أن ننظر في عين الفوضى… أن ننزلق إلى الفوضى لكي نبلُغ النظام الحقيقي".
تجربة الغريب أعمق من التجارب الأخرى لأنه يراقب المعتاد والسائد والمتفق عليه بعين الدخيل الثاقبة، ولكنه ليس متطفّلاً. غربته عن الحياة كما نعرفها تدفعه لأن يصف نفسه بأنه "كمن يعيش وجود ما بعد الموت"، وهو بذلك، بتجاربه، "حيٌّ" أكثر من اولئك الذين يمضون في حياتهم اليومية إلى سرير الموت.
الغريب هو إنسان غير قادر على العيش في عالم البورجوازية، ذلك العالم المريح والمعزول عن التجربة الحقيقية، عالم يدفعنا إلى تقبّل ما نراه ونتبنّاه على أنه الأحتمال الوحيد الممكن. الغريب يرى بقوّة وبعمق. وملخّص ما يراه هو الفوضى. بالنسبة للعقل البورجوازي، العالم مكان منظّم، فيه عنصر مزعج تسيطر عليه اللاعقلانية المرعبة، ولكن انشغالاتنا اليومية تسمح لنا بالتأكيد أن نتجاهل هذا الرعب (في شي أكبر مني ومنك).
الأهم من كل ما سردناه أعزائي الرحالة، أن الغريب يحيا متجاوزاً المسمّيات والفئات والخصائص، فهو "اللامنتمي" الذي لا يؤمن بعبادة "الشخصية" ولا بالنجوم أو المشاهير، فكل تلك المسمّيات مجرد وسيلة لتبسيط التناقضات البشرية العميقة التي تجعل من المرء ذاتاً متكاملة. يقول كيركيغارد: "إذا أردت إلغائي، ضعني في نظام من المسمّيات".
في أعداد سابقة من رحلة، تعاملنا مع مفهوم الاغتراب (ولكن ماذا بعد وصف الحالة)، ثم تعاملنا مع بعض "عوارض" الغريب أو اللامنتمي وهواجسه كشخص لا يرتبط بزمانه وبمحيطه فيخطو خطوة ويسأل: "كل المغامرات انتهت؟". المغامرة هي هاجسه لأنها الطريق الوحيد إلى الحقيقة. فاللامنتمي يرفض حقائق المجتمع ويختار رحلة البحث الدائم عن الحقيقة في غرفته المظلمة أو في أزقة المدينة. يمقت الحياة كما تُقدّم إليه على أطباق مزخرفة، يفضّل أن يشكّك بأصالتها، أن يتذوّق طعم آخر للحياة. في هذا العالم، قد يكون من الأجدى أن ندفع كل شخص إلى أن يكون غريباً، خارجاً عن الإجماع، أن نحرّض على ذلك.
في العدد 30، نكتب عن اللامنتمي(ة). نمنحه الحياة لكي يرى ويختبر العالم ويتحدّث عنه، ليبحث عن الحقيقة، عن صخب السؤال وسكون الجواب.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة