" المتفرج الأخير اليقظ، إنتحر. هكذا نتكلم ولكن لا نعرف من يسمع، نكتب ولا نعرف إذا كان هناك أحدٌ يقرأ "
– بوريس جرويس.
منذ الخطيئة الأولى إلى الآن، إكتشفنا كَبَشرٍ براعتنا التلقائية في شيء أكيد متكرر: الخروج من العوالم الملفّقة. بعيداً، في هذه الحياة وعلاقاتها، هناك قاعدةٌ إستدلاليّةٌ تساعدكَ على سماعِ كلماتٍ معينةٍ بثقةٍ دون أن تضطرّ إلى إحصاء أصابعك بعد سماع تلك الكلمات(عبارات الشكر والثقة والأمل التي توجهها الشركات، البنوك، الجمعيات..)، وعموما فالقاعدة تفيد بأنك: حين تجدُ أنّ الضحك حولك شغّال، وأنت الوحيد الذي لا يضحك (قد تبتسم لكي لا تبدو أبله) فإعرف مباشرة أن هناك نكتة، والنكتة عنك غالب الأوقات، فتصرف وفقا لذلك. قبل أن نبدأ بإتهام الآخرين، الذين هم متاهات حلزونية، بنصب وإعداد مؤامرات وفخاخ علينا، من سلطات وأنظمة حاكمة مع أبطالهم وأدواتهم، الذين هم مفتضحون في الإتهام على كل حال بسبب عدم إحترامهم آداب المائدة، ما الذي جعلك النكتة في الأصل؟ هل أنت كإنسان -ضمن من إتهمناهم- مضحكٌ بطبعك؟ ما الذي فيك؟ لقد فقدت القدرة على التحكم في جوهرك، كل شيء حولك مفلسٌ، لقد بخست من قدر نفسك كثيرا يا صديقي.
يبدأ الأمر أحياناً حين يُملي عليك أحد بمظهر أنيق، إضافاتٍ لست بوارِدِها، أي حين يبدأ أحدهم بتعبئةِ هامشك دون إذن منك أول الأمر. قد تكتفي بالمبررات التي يبينها لك كأن يكون ما تفعله من صالح المجتمع، أو من سمات المواطن المتمدن، المتحضر.. يخبرك بطرق كثيرة، بالتوجه إليك مباشرة، أو من خلال غيرك، محيطك وعالمك الصغير.. قد تكون شخصاً إنعزالياً لديه عالمه، عالماً من الماورائيات، ومع إزدياد الأعين الإصطناعية حولك لسبب تجهله، تنسى تماماً أمر الماأماميّات، وتتدرّج في فقد ثقتك، مستمراً هكذا حتى ينقضّ عليك في النهاية المحللون النفسيون الأكاديمييون ليلصقوا عليك آخر صيحات الأمراض النفسية، يشدّون ثم يرخون، وتطفو على السطح عبارات مثل: علم نفس إيجابي، صناعة السعادة، جمعية حقوق المستمنين الخ لا أعرف حقا..تبدأ عيناك بالإتساع، أحدهم يشغل موسيقى رقصة البجع لتشايكوفسكي وتصير أنت عبارة عن عين ضخمة، عين بملامح إنسان، كما لم يقل نزار قباني. هذه العين تصبح أنبوب مكنسة كهربائية.
يمرّ على غيرك ما مرّ عليك، قد يتماهى مع ما يراه، فيصير شبيها ببطل الفيلم السخيف (ذا توكسيدو)، تُحرّكُهُ بذلته، أو يصير بسحر ساحر رجلاً يتلفّظ بالكلمات كأن الجارسون يأتيه بها على طبق، فيتذوقها قبل أن يتفوّه بها، محققاً بإنمساخه هذا مكسباً يرضي ما يراه الرضى عند غيره.
صراعٌ ساحته العين، كلمة التأكيد في هذه الساحة قولكَ: منظور، عوض: ملموس. قد تراجَعَ اللمس إلى الوراء، كذا اللسان، عيني عليك ستبدأ بالقلق حقا: تخشى أن تلقي بصرك على هاتفك يوماً، ثم حين ترتدّ نظرتكَ، لا تجدُ عينيك. هناك من يريد سرقة عينيك. لكن لمَ تحتاجهما إن لم يكن حولك غير الخراب، بلد يحاول الإبتسام بأسنان نصفها مفقود.. تكتشفُ أن هذه المعضلة مصنوعة خصيصاً من أجل التحكّم؛ التحكّم في الكيفية: هذه المفردة المنطوية على كثيرِ مصطلحات: الجماليّة؛ فحيث تظهرُ لك لوحة فنية ألف مرة من حيث لا تدري، فتبدأ بالإعتقاد أنها جميلة حقاً /الوسيلة من أجل الوسيلة. الشعرية، السياق، الوظيفية..اللعين الذي تشتري منه تجادله في السعر فيرد عليك بالكلام على القيمة.
بلد يحاول الإبتسام بأسنان نصفها مفقود..
من أجل التحكم في السرعة؛ يجعلونك أم أربعة وأربعين ثم يفتحونَ أمام منزلك محلا لبيع أحذية مخصصة للأشخاص ذوي الأربعة وأربعين قدم، "حسناً يا أبناء العاهرة" تقولُ أنت مغلوبا على أمرك.
التحكم في الخبرة الكلية لأي شيء؛ تطلبُ شخصاً ليصلحَ لك حنفيّة المغسلة، فيبعثون لك موظفاً يفتح الباب، وآخر ليصل إلى الحنفية، يحمل بدوره موظفا ليصلح الحنفية ويقبض منك، الحاملِ بدورهِ موظفاً ليصافحك مبتسماً ويودعك.. نعم يسمونه التخصص. إنه إغتصاب غير مباشر للجيب كما ترى، إغواء نهايته فحش فارغ، تأكلُ طُعمكَ عبر تمائم عديدة منتشرة(تريند، موضة، مؤخرتي ..) كل هذا يعرض عليك في شعائر لها طقوس، ستريبتيز ثقافي متفشٍ في ما ومن هم حولك، تنظر إليهم يعلّقون على كليب أغنية للمغنية حورية البحر التي ليست إلا سمكة زنخة لها بِزّان. هنا يشبه الأمر كأن يستيقظ "جريجور سامسا" ذات صباح بعد أحلام رطبة، ليجد نفسه في الفراش وقد تحوّل إلى "نجم الشاشات الأول".. أحب أن أدعو هذه الحالة: معضلة ترومان بيربانك، بطل فيلم "Truman Show"، حيث يعيش البطل في إستديو هائل مصمم لتصويره على أنه برنامج تلفزيوني يصوّر للعالم أجمع حياته منذ خطوته الأولى حتى تسلل الشك الصافي إلى نفسه، عن طريق حب إحداهن، ثم ينتهي به بالخروج من الإستديو/الجزيرة البحرية، خارجا عن الإخراج والتلفيق الفارغ. الخروج من الإستلاب الكلي والغُفْل، وصولاً إلى الإنسان الخارج، أن تكون هذا الإنسان عليك إيجاد وجودك ولو عبر الإختفاء، هذا الإختفاء الذي يقلق المنظومة التي أنت فيها، يقلقها عليك، أو على نفسها منك. يستهدف التحكم هنا صدقك الكامل، يستخدم النظام/المُخرج أدواته مدعياً عبرها إمتلاك الحقائق المثلى، التي هي كامنةٌ فيك أصلا. قد تجد هذا المجتمع/الإستديو فرصة للتأله، لكن ما هي إلا تصنيمية، يسميك أحدهم في أحسن حال: داندي، يا للعار..
وهنا أيضاً يحصل ما حصل مع نرسيس، رمى نرسيس نفسه في النهر لأنه لم يحتمل الرؤية الدائمة، الساكنة والمتغيرة بمرور الوقت عليه.. وهنا تخبرك الإحصائيات أن أعلى معدلِ دخلٍ للأطباء هو دخل أطباء التجميل، فالعيون، فالعظم؛ واضحة: المرئي أولى من الرائي.. وهنا ترتفع أسهم أخصائي التغذية: لا غذاء ولا إتساق، لا النطق مسعدٌ ولا الحال.
لحال أخرى، عليك إيجاد إنسان آخر، سمّه ما شئت: الإنسان الخارج، الحشرة النادرة، المنتسب لنادي القتال.. إستهدِ بالحسِ الساخن، تعرّف على الشيء، حجراً كان أم منفضة سجائر، قل: تشرفت بكم أيها الغرباء الذين لن أعرفهم ولن يعرفوني، أيها الكاملون بوعي نقصانهم، "كسادنا الكبير هو حياتنا" إذ نستعرضها، التشويش هو ما تحتاجه حين يصير المنطق متاهة لك، كلمة "آه" تساوي ألف أغنية، العالم هو العالم، خريطتك هي العوالم، لا بطالة للإنسان البطالة للمواطن، إننا أبطال الخروج الدائم، لذلك،
قل أي شيء ما دمت أنت، فلا داعي لأن أقول لك من أنت.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة