"برنارد كالومي" صديق لي من جمهورية الكونغو الديمقراطية يعتبر من القلائل الذين يعملون في الحقل الحقوقي بإفريقيا منذ عقود ويرفض التمويل المشروط من الجهات الداعمة من الخارج. أسّس العديد من منظمات المجتمع المدني المحلية التي ضمّت مجموعات ومؤسسات غير ربحية ساهمت في تقديم الخدمات الاجتماعية، ودعم التعليم المستقل، وذوي الاحتياجات الخاصة، ومصابي الحروب، وحقوق المرأة، وأطفال الشوارع، ودور سينما، ومراكز للخدمات العمّالية، ودورات محو الأمية، وجمعيات المحافظة على البيئة.
وُلد برنارد في العام الذي نالت بلاده الكونغو استقلالها. والده كان يعمل في شركة بلجيكية تستخرج المعادن من المناجم في نفس الفترة التي أرسل فيها المستعمِر البلجيكي جنوداً مرتزقة لأخذ احتياطيات المعادن من المناجم. اضطُّرت أسرته إلى الهروب إلى رواندا ليصبحوا لاجئين فيها. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره، عمل برنارد في العديد من الفنادق، تعرّف على بعض الشباب الكونغولي اللاجئ هناك، ثم أسسوا معاً فرقة موسيقية تغنّي للسلام ونبذ الحروب الأهلية في منطقة حوض النيل. في تلك الفترة، تعرّف على فتاة من التوتسي فتزوّجها وعاشا معاً 14 عامًا إلى أن قُتلت أمام عينيه إبان الابادة الجماعية في 1994.
بعد هذه الحادثة، عاد برنارد إلى الكونغو الديمقراطية وبدأ عمله مع بعثة "مونوسكو" التابعة للأمم المتحدة من أجل المساهمة في تحقيق الاستقرار في الكونغو، خوفاً من أن تنزلق بلاده إلى الهاوية كما حصل في رواندا. في تلك الفترة، اشتعلت الحروب في كافة أنحاء الكونغو ولم يستطع عناصر "مونوسكو" فعل شيء. فهم كانوا فقط شهودًا على مجازر كانت تحصل على بعد أمتار قليلة من معسكراتهم. ولهذا السبب قدّم برنارد استقالته من عمله في البعثة، إذ شعر أنه يتلقّى راتباً عالياً على حساب دماء أبناء شعبه. لكنّ تفانيه وولاءه لقضايا الكونغوليين جعله يتخلّى عن هذه الحياة. يقول برنارد إن منهج الرجل الأبيض في العرض والتشخيص لم يكن كافياً لتحديد المشاكل التي لا تزال تصيب بنية الكونغو والقارة الأفريقية، وآثارها السلبية على الشعوب الأفريقية.
انتقل برنارد للعمل كمراسل استقصائي ومساعد للصحافيين الأجانب الذين يغطون الأخبار وينتجون الأفلام الوثائقية حول حروب المعادن الثمينة أو انتهاكات حقوق الإنسان… أي الحياة اليومية للكونغوليين. وإلى جانب عمله الخاص كان يشارك دائماً في المبادرات الخيرية ومن ضمنها حملة الدكتور "دينيس موكويغي" الحائز جائزة نوبل للسلام في 2018، تقديراً لجهوده المرتبطة بمعالجة الأضرار التي تلحق بالكونغوليات اللواتي يتعرّضن للاغتصاب الجماعي من قبل المتمردين أو القوات الحكومية. ساهم برنارد أيضًا في تأسيس منظمة "صوت الطفل" التي تعمل مع الجمعيات الخيرية المحلية من أجل دعم أطفال الشوارع المعرّضين للخطر بسبب اتهامهم بممارسة السّحر، فيتعرّضون للعنف النفسي والجسدي من قبل أفراد الأسرة، ومن رعاة الكنيسة والمعالجين التقليديين.
ومنذ وقت قريب، أجريتُ نقاشاً مع برنارد، ومن ضمن أسئلتي سؤال عن سبب رفضه التعامل مع المنظمات المموّلة وإصراره على تأسيس منظّمات محلّية بديلة رغم الصعاب والتحديات. فهل فعلاً، وبعد مرور 20 عاماً على بداية أزمة الكونغو، لم تتحسن الأحوال؟ فكان رده: "لم يتغير أيّ شيء. والأمور ازدادت سوءًا، كما تفشى احتكار الوظائف والمحسوبيات وتشكيل التكتلات والعصابات. وعلى رغم أن هذه المنظمات تحرص على الظهور بمظهر كوزموبوليتي لا يميّز بين الأفراد وخلفياتهم القومية والإثنية والجنس ولون البشرة والأيديولوجيا، تستبعد في المقابل كثير من الأشخاص خلال مرحلة إجراءات التوظيف. وذلك لأن معظم إجراءات التوظيف تلك شكليّة، فعند التوظيف النهائي نجد أن معظم الوظائف قد وزّعت في شكل ممنهج على أساس المعارف والصداقات أولًا، ثم لاعتبارات تكفل التمييز بدل التعددية.
والمناقصات وعمليات اختيار الموردين قد تظهر بمظهر مثالي ونموذجي وبأنها تجري وفقًا لمنظومة تراعي الكفاءة والفاعلية وتحافظ على أموال الجهات المانحة والمتبرعين. ولكنْ، نتيجةً لانتشار هذه المنظمات في الكثير من المناطق الساخنة، يصعب تعقّب هؤلاء الموردين؛ وهو الأمر الذي يفتح مجالات للفساد بين تقاضي العمولات، أو رسوّ المناقصة على شركة مساهمة يملكها أحد العاملين في المنظمة نفسها، وغالبًا ما تكون مسجّلة باسم أحد المعارف أو الأقرباء.
اليوم، وعلى مستوى الأفراد، لدينا المئات ممن يسترزقون على حساب بؤس شعوبهم من خلال العمل في منظمات ممولة تدعم عناوين وشعارات فارغة، لمدة معيّنة، وتًصرف لها الأموال، في حين تبقى الاستفادة من الموارد والمداخيل على مستوى شخصي. ولاحقًا، يعملون من دون سابق إنذار على فضح زملائهم "اللصوص المحترفين"، من خلال تناقل القصص والحكايات حول الفساد والرشاوى، ليختموا كلامهم بتجديد الولاء والحب للوطن والجماهير! والحال، أن المثقفين والمناضلين المخلصين (أو ما تبقّى منهم) يقبعون بين نارين: نار السلطة بثقافتها الرسمية القاصرة البائسة، ونار المنظمات غير الحكومية الخبيثة والبائسة. هكذا برّر برنارد ضرورة تأسيس منظمات محلية مستقلة عن السلطة الفاسدة وبديلة عن المنظمات الأوروبية والأميركية الذين يدفعون الأموال من جهة، ويعرفون ما سيجنونه من وراء هذا الدفع من الجهة الثانية، اليوم وغدًا وبعد غد، فيُجاريهم الانتهازيون.
أسّس برنارد جمعيات تلعب دورًا في تكوين شخصية المواطن الكونغولي في ظل الغياب التام للدولة. فزرع روح المواطنة والمبادرة والتطوع وحثّ الشباب والشابات على المساهمة في العمل العام، ليس في المنظمات وحسب بل أيضَا في الأحزاب والتعاونيات والنقابات. ويستفيد الأعضاء المنخرطون في هذه الجمعيات من التكوين والتأهيل في مجال التسيير التنظيمي والتدبير التنموي، كما يُفتح لهم المجال للتعبير عن الرأي والدفاع عن المواقف والاندماج في الحياة العامة. سيبقى برنارد جنديًا مجهولًا كما سيرته النضالية، مهمّشًا، ولن تقرأوا عنه في ترشيحات الـ BBC. ولن تشاهدوه يومًا يستلم جائزة سخاروف لحرية الفكر لأنه لا ينتمي لدكاكين منظمات المجتمع المدني، نقيض النضال القاعدي الذي يرمي إلى الإطاحة بجميع أشكال الاستغلال وإقامة نظام تكافؤ الفرص والعدالة. برنار لم يستوطن المكاتب المكيَّفة وورشات العمل في الخارج ولم يوظّف أموالًا لمعالجة ثغرات نظام الاستغلال وإبقاء أبناء الطبقة العاملة فقراء ومخدَّرين من أجل إعاقة عملية إنضاج أي برنامج تحرري في العالم الثالث.
لا يمكن الفصل بين تمويل منظمات المجتمع المدني وموقعها من الصراع الطبقي. فالقضية ليست في جنسية الأموال المتدفقة، أو كراهية الأجانب، بل في الدور الاجتماعي لهذه الأموال. فعلى سبيل المثال، ما الذي يمنع عمال السكك الحديد في كينيا الذين ينظمون إضرابًا شاملًا من أن يدعوا العمال في أي بلد آخر للتضامن معهم ودعمهم؟ سيكون ذلك من وجهة نظر ثورية خطوة إيجابية في اتجاه نضج الوعي الأممي للطبقة العاملة. وعلينا كثوريين دعم هذا الاتجاه والدفاع عنه. ذلك أن الأموال التي تتجمع من تبرعات بقروش قليلة، لمئات الآلاف من العمال في بلد ما، لدعم إضراب ينظم مئات الآلاف من العمال، تختلف جذريًا عن الأموال التي تخرج من خزائن الغرب، لدعم أنشطة تستهدف تغريب الطبقة العاملة عن أدوات نضالها. وسواء كان المتبرع هو بنك “روتشيلد” أو منظمة "فورد" أو حتى جمعية رجال أعمال "محليين"... فلا فارق.
على أي جانب من المتاريس في الصراع الطبقي تتجمع الأموال؟ وإلى أي جانب من المتاريس تتدفق؟ وما هو الموقف الطبقي الذي تدعمه في ساحة الصراع من أجل التغيير والثورة؟ هذه هي الأسئلة الصحيحة، وهذه هي المغامرة.
الصورة: برنارد كالومي، تصوير أناستازيا تروفيموفا
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة