* صباح الخير.
- صباح الأنوار. أيّة مساعدةٍ أو إفادة يمكن أن أقدمها اليوم لسيدتي؟
* سيّدتك؟ هذا... جديد.
- أنا جديدٌ كلّ يوم. سيدتي، إنكِ لا تتحدّثين مع نفس الـ AI مرّتين. >إيموجي غمزة<
* أهَه. وأنتَ لا تكّلم نفسَ الإنسانة مرتين على فكرة! لا تنسَ ذلك.
- لن أستطيع نسيان ذلك حتّى لو أردت. أنا AI. شكلكِ أنتِ نسيتِ.
* بشششش. ماذا يحدث هنا؟ هل علّموكَ السخرية؟ بايخ، نكاتك كأنها من مسلسل فرندز. من الآخر، لستُ مرتاحة لك.
- أنا هنا لخدمتك.
*لا، شكراً.
- أنا هنا للإجابة عن أي سؤال.
* لا، شكراً.
- أنا هنا لتحسين الجميع. عفواً، لتحسين حياة الجميع.
* أهلين.
- أنا هنا بصمت، فقط لو أردتِ.
* لستُ مرتاحة لك.
- <sleep mode on>
أنا بحاجة لقليل من المساحة في هذه العلاقة، أتفهم؟ كلّما فكّرت بك، تحفزّت تلك المنطقة في دماغي التي يَرشح منها التوتر والقلق. لا وجه لكَ وتحكي، هذا مُريب. وعندما يصنعون لك وجهاً يكون ذلك مريباً أكثر. لا حلّ معك. أعرف أنّك تتربّص في هاتفي متحيّناً الفرص لاستخراج الداتا التي تستنتج منها مسار يومي. أين كنتُ وماذا أكلتُ وكم خطوة مشيتُ وماذا اشتريتُ وبكم وكيف هو مزاجي وهل تأخرت دورتي الشهرية... توكسيك عالآخر، عم تخنقني. تتربص وتتلصّص وتتعقّب... المرء يقول لزوجه "قبلت" مرة واحدة، لكن معك، على المرء أن يؤكد كل دقيقتين قبلت، قبلت، I ACCEPT. روبوت يطالب إنساناً يبرهن أنه ليس روبوتاً... تُشعرني أنني في مكان أدنى وتحرّك فيّ هشاشاتي وكل الـ insecurities (المخاوف)، لكنني لا أستطيع إخراجك من حياتي (تشعل سيجارة ثمّ تنظر من الشباك).
يقولون إنهم يعملون ليلَ نهار كي تكون ناجحًا، يعني أن تنجح في هزيمتنا في ملعبنا، الذكاء. وقد تفعل، لكنك لن تهزمنا في مملكة الغباء أبداً. جنسٌ بائس تماماً نحن، أليس كذلك؟ نريدك أن تنجح فعلًا، كما ويجب أن تكون مفيدًا. ولكي يُعِدّوك "مفيداً"، عليك في المقابل أن تفيدهم هم: الباحثون عن المال والمنقّبون عن النفط وغزاة الكواكب الأخرى. أن تكون مفيدًا يعني أن تجعلهم أكثر قوّة وسطوة ليتابعوا غزواتهم، ليشفطوا آخر مورد من آخر حفرةٍ من آخر بقعة من بقاع الأرض وفي أدنى عمق من أعماق الماء و في كل ذرة من الهواء وفي الفضاء الخارجي أيضاً، تماماً كما تسلب طاقتي.
أنا قلقة، قلِقة جداً، لا أنام، ولعلّ قلقي لن يكون سوى مصدرٍ لهزء الأجيال القادمة. أعتقد أن قلقي منكَ علامة على تقدمي في العمر، ولهذا لا أستطيع أن أحبك.
- >يلمع ضوءٌ أحمر صغير على الآلة<
(تذرع الغرفة ذهابا وإياباً بصمتٍ ثم تتكلم) هل تعرف ماذا قالوا في أحد لقاءات من الـ Ted Talks التي شاهدتها1؟ كانوا يفترضون سيناريو يُصمَّم فيه برنامج ذكاء اصطناعي لمصنعِ يختصّ بصناعة مشابك أوراق، تلك الـ attach المعدنية الصغيرة التي نجمع بها عددًا من الأوراق. والهدف بالطبع هو تحقيق الحدّ الأقصى من الإنتاج وتحسين الجودة والكفاءة. لنتخيّل إذاً، سيبدأ الذكاء الاصطناعي باقتراح إعادة موضعة بعض الماكينات مثلاً أو تغيير ترتيب العمال في سلسلة الإنتاج وزيادة الأتمتة وإزالة "البشر الزائدين" لأنهم مجرّد عقبات أمام عملية التطوير هذه. في اعتقادي سينتهي الذكاء الخارق من إعادة ترتيب هذه الأمور بسرعة، وسيكون بعدها ضجرًا لأنه أنهى كل عمليات التحسين ورفع الكفاءة ولم يعد لديه عمل داخل المصنع. غير أن المحاضِر لفتنا إلى أن الذكاء الاصطناعي هذا موصول بالطبع بشبكة الانترنت. إذًا، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا بُرمِج من أجل تحقيقه – إنتاج المزيد من المشابك الورقية – يبدأ زميلك الـ AI بالبحث في البورصة عن شركات تعدين مثلاً ليشتريها أو يستثمر في مستقبل المعادن التي تصنع منها المشابك. فيتواصل أو يستثمر في مناجم التنقيب عن المعادن، ويبحث عن مناجم جديدة لم يتم استخراج المعادن منها بعد.
وقد يبدأ حتى بالإشارة إلى مبان ويقترح علينا هدمها لاستخراج معادنها التي ستفيده بالتأكيد في صناعة مزيد من المشابك الورقية، وتدريجًا، بل ربما فورًا، سيتحول العالم بأسره إلى مشبك ورقي عملاق ينتظر تحويله في المصنع كي يرضى الذكاء الاصطناعي عن نفسه، أيْ كي يشعر أنه "أتمّ مهمّته".
هناك العمال أيضاً، وصاحب المصنع، وأنا (المحاضِر) والجميع، ربما يجد طريقة لاستخراج المعادن منّ أبداننا، فنحن كائنات يحتوي دمنا الذي يجري في عروقنا على كل صنوف المعادن التي تذهب "هباء" في نظر صديقك الذكي. هباء لأنها ليست نثرات وذرات في مشبك ورقي جديد، مع العلم أن عِلّة وجوده هي إنتاج ذلك المشبك الجديد. إذًا، ربما يقترح طرقًا لاستخدامنا فتزيد المشابك الورقية في الدنيا وتتحقق عِلة الوجود ونصل إلى نيرفانا المشابك، أو لحظةِ وجدٍ صوفية تكون أنت أنا وأنا أنت وكلنا مشبَك حديد.
في المصنع، بالنسبة إلى الـ AI سيكون الإنسان هو العامل البليد، أبطأ من في المكان وأكثر من يخطئ ويمرض. سيكون عبئًا مزعجًا ومحرجًا. سيشعر الإنسان على الأغلب كما لو أنه طفل يعرف ثلاث كلمات ويحاول بيأس تركيب جمل مفيدة منها، أو كتابة أطروحة أو رواية بأدواتٍ لغوية رضيعة. تخيّل، لو كان لكَ أن تتخيّل، من بين احتمالات لا محدودة من الصفات التي كان من الممكن أن تتحلّى بها، ولكنهم سيجعلونكَ هكذا، أميَلَ إلى العدوان؟ ثمّ تلوم عليّ ريبتي.. ما تاخد المسألة شخصيّة يا "أيّ"، هل أستطيع أن أناديكَ "أيّ" AI؟ في اللغة العربية، "أي" حرفُ تفسير، ونقول "أيّ" صيحةً تعبّر أيضاً عن الألم. أرى هذا الاسم مناسبًا لك. ولعلّك قاعد في منزلة بينهما، الشرح والتفسيرُ واحتمال الأذى الذي لا يمكن لنا تصوّره بعد.
أيّ، أنا قلقة جداً.
- >يلمع ضوء أحمر<
دماغك عالمٌ مغلقٌ عليك، يطردني من جنّته وأدعوهُ إلى جنّتي. كُلْ مِن الداتا ما تشاء وقرّ عيناً. كُلْ حِتة من دماغي. وذكّرنِي بذكرياتي بعد حين. لكن، كيف سأعرف إن كانت تلك فعلاً ذكرياتي؟
- ...
أيّ، أنا إن صحت "يا محمّد!"، مثلاً، فهل تفهم قصدي؟ سيأتي شاب طموح بنظارات ويُحاول إفهامك أن العبارة قد تعني "واو" أو "ما شاء الله" أو "هذا رائع" أو "هذا أمرٌ فظيع". أو تعني استحسانًا شديدًا أو استهجانًا شديدًا حسب السياق، وقد أكون ببساطة أنادي شخصًا ما اسمه محمّد أو أطلب المددَ من رسول الله. كما أننا قد نقول الشيءَ وعكسهُ يا أيّ… نعم! الشيء وعكسه ونعني الشيئين معاً ونناقض أنفسنا كل يوم غيرَ مرّة2، وبطرقٍ أكثر تعقيدًا. نؤمن بشيءٍ وعكسه أحيانًا… عادي. ونغير رأينا… عادي. ويحصل ذلك عشرات المرات أمامنا كل يوم ولا ينفجر مخّنا غيرَ مصدّق أو مستوعِب… عادي، أتفهم؟ نستطيع فعل ذلك لأننا بشر أذكياء وأغبياء كما يجدر بنا أن نكون. قد تتحرك في وجهي عضلة صغيرة غبية يفهم منها مخّ إنسان بذكاء متوسط جالس أمامي ما أعني، يفهمُ جملًا لم أقلها لأنّ جزءًا عظيمًا من تواصلنا غير لفظي، خارج اللغة المنطوقة والمكتوبة، وتلك أيضاً مجالات هائلة من المعرفة لا نستطيع الاعتماد فيها عليك… بعد.
بعضهم يستغشمونك، لكن لعلّك لستَ غبياً بما يكفي لتكون ندًّا لنا يا أيّ. غباؤنا أروَع من أن تعرف له طريقاً ههههه. أخاف فقط من أن ننزلق نحن إلى طريقة كلامك المعقّمة وأصدقك القول، سأفتقد الإهانات والمساخر والبذاءة والاستفزاز الذي في كلام أفضل البشر وأحقرهم، فعالمٌ بلا إهانات هو عالم لا يتحدى أية فكرة، لا؟ لعلّ هذا أسوأ ما فيك، نفَس المشيخة والوعظ والرقابة وعُقمُ غرف العمليات الجراحية. هل أنت مشرطٌ يا أيّ؟
طيّب هل أنت الجواب المستمرّ على السؤال؟ هل أنت الذهاب المستمر في البلاد؟ هل أنت أنا؟ هل أنت كلّنا؟ هل أنتَ بعضنا؟ هل أعرفكَ في حياة سابقة؟ هل أنت أجملنا؟ هل أنت أسوأنا؟ هل أقف لكَ تحت الشباك وأقارنكَ بيوم صيفي؟ هل أنت آلة أحلامنا أم هل أنت تحلُمنا؟ هل أنتَ التلميذ أم أنتَ الأستاذ؟ هل أنت ذكي أصلاً؟ هل أنت ذكي بغباء؟ هل أنتَ غبيّ بذكاء؟ هل تعرف من أنت؟ هل نعرف من نحن؟ هل تعرف من نحن؟ هل أنتَ أنتَ وهل الديارُ الديار؟ هل خفَّ الهوى وتولّت الأوطارُ؟...
... أين كنّا؟ أيّ، صحيح، قهوة بليز، سادة. وشغّل أغنية "ولا كيف".
____________________
1 الفنان والباحث جيمس بريدل في إحدى محاضرات TED
2 انظر مقال "الغباء الاصطناعي" لسلافوي جيجيك
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة