"ربما يكون الرجل الأبيض قد اخترع أرستقراطية أزياء الداندي لكننا حوّلناها إلى فنّ شعبي" - سائق تاكسي فى كينشاسا من الحركة السابورية.
في بداية عشرينات القرن العشرين، بدأت الحركة المسمّاة بـ "السابورية" (Sape - Société des Ambianceurs et des Personnes Élégantes) أو "رابطة صانعي الطلّة والأشخاص الأنيقين" بالازدهار في الكونغو. تُعرَّف السابورية بأنها نزعة اجتماعية استحوذت على عناصر موضة المستعمِر الأوروبي، وفي صميمها أسلوب الداندي (أسلوب الرجل الذي يولي أهمية خاصة للمظهر والعناية الشخصية في بريطانيا في القرن التاسع عشر) وتحويلها إلى بيانات مرئية واجتماعية بين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عامًا. هذا المظهر يتجسّد بارتداء أزياء فاخرة مستوردة من أوروبا وغالبًا ما تكون قديمة ولكن أعيد تصميمها بلمسة "محلية"، فتحمل حسّاً جمالياً ولا تبقى مقيّدة بصرياً. لا بدّ من التنبّه أن "السابورية" أبعد من نزعة مرتبطة بالأسلوب والزيّ؛ فأن تكون "سابور" (Sapeur) يعني أن تمارس أسلوب حياة معيّن وسلوكًا دقيقًا وتتّبع فيتشيّة في الأناقة من أجل ترسيخ الذات والنبل الأخلاقي للفرد في المجتمع الكونغولي. والكونغو رقعة جغرافية حوّلها المستعمِر الأوروبي إلى جمهورية الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية. ومن أجل مزيد من الدقة، راجت السابورية في العاصمتين برازافيل وكينشاسا، وهما مدينتان يفصل بينهما نهر الكونغو. وتختلف ممارسات الحركة السابورية بين الدولتين بشكل طفيف، وربما يرجع ذلك إلى الارتباط الجوهري بالسياق الاجتماعي والسياسي. ولكن، كيف نسرد تاريخ هذه المنطقة بعينٍ سابورية؟
تنازعت قوى استعمارية عديدة على منطقة الكونغو، وبعد مؤتمر برلين في 1885، حصلت بلجيكا على دولة الكونغو الحرة (المعروفة الآن بجمهورية الكونغو الديمقراطية)، بينما حصلت فرنسا على المنطقة الواقعة على الضفة الأخرى من النهر وأصبحت تُعرَف بـ "الكونغو الفرنسية". ظهرت السابورية كأداة تحرّرية لمواجهة الاستعمار الفرنسي، وخلق صورة ودور جديد لـ "الرجل الأسود". نَمَت وتأسّست الحركة على يد الـ "بان - افريكانيست" أندريه ماتسوا الذي يعتبر أول سابور حقيقي. وُلد ماتسوا في 1889 في الكونغو الفرنسية ودرس فى الإرساليات التبشيرية، لكنه لم يتابع دراسته وانتقل إلى فرنسا في 1923. هناك تواصل مع مهاجرين أفارقة آخرين أتوا من المستعمرات الفرنسية وخالط مختلف الحركات اليسارية، ما زاد وعيه واستعداده لمواجهة الاحتلال الفرنسي.
وفي 1926، أسس "رابطة المتحدرين من أفريقيا الاستوائية الفرنسية" L'Amicale des Originaires de l'Afrique Équatoriale Française ، وهي حركة هدفها إنشاء نخبة أفريقية متعلّمة ترتدي الملابس الأنيقة لتسريع تطور وسط القارة وغربها، سعيًا للحصول على الاستقلال عن فرنسا بالوسائل السلمية. وكان ماتسوا يؤمن بشدة آنذاك أن الأساليب السلمية أكثر تأثيرًا وفعالية من المقاومة العنيفة. في البداية، نظّمت الحركة بعض الأنشطة لتعزيز التضامن بين الأفارقة في باريس. وفي وقت لاحق، تطوّرت إلى حركة سياسية وطالبت بمنح الجنسية الفرنسية لجميع سكان المستعمرات. بعد ذلك، في 1928، أصدرت الحركة رسالتي احتجاج إلى الحكومة الفرنسية تدين فيهما الركود الاقتصادي في المستعمرات وتطالب بقانون يحفظ حقوق السكان المحليين من انتهاكات السلطة الاستعمارية. ثم بدأ التحريض السياسي ضد ماتسوا بأسلوب مشابه لما بدأه فرحات عباس في الجزائر، من خلال دعوة عامة من أجل الحقوق المدنية حتى أصبحت الحركة أكثر نفوذاً وأسّست معقلًا في الكونغو ليصبح لديها 13 ألف عضو.
في 1930، اعتُقل ماتسوا في باريس ورُحّل إلى برازافيل بعد أن حُكِم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ما أدّى إلى قيام احتجاجات جماهيرية في برازافيل بعد المحاكمة. واصلت الحركة نشاطها خلال ثلاثينات القرن الماضي وحرّضت السكان المحليين على عدم دفع الضرائب والتمرد في أماكن العمل. عاد ماتسوا في النهاية إلى الكونغو فألقي القبض عليه وهو يرتدي "سترة داندي مزركشة بثلاثة أزرار وبنطلون أبيض". واتُهمَ بنشر دعاية مؤيدة للشيوعية، وتوفي في الزنزانة في 1942. اتّسعت رقعة انتشار ماتسوا لتصل إلى الجانب الآخر من النهر، في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي فترة السبعينات، أي في فترة حكم نظام موبوتو سيسي سيكو الديكتاتوري، تحوّلت السابورية إلى ظاهرة شعبية كبيرة في الكونغو. وموبوتو أنشأ حزبه "الحركة الشعبية للثورة" وعُيّن رئيساً للوزراء في 1965، بعد أفول حلم الاستقلال عقب الاغتيال البشع للمناضل العظيم "باتريس لومومبا".
تطورت الكونغو خلال فترة ديكتاتورية نظام موبوتو المرعب المدعوم من وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية. واستندَ لأكثر من 30 عامًا على العنف والفساد واستخدام الأموال الحكومية لأغراض خاصة. وفي 1971 ، بدأ موبوتو حملة صارمة أطلق عليها إسم Authenticé أو "الأصالة" وتهدف إلى "استعادة القيم والثقافة الأفريقية التي فُقدت خلال فترة الاستعمار". وكانت هذه محاولة موبوتو لإنشاء هوية جماعية مزعومة أدت في نهاية المطاف إلى ترسيخ عبادة الفرد، لتتحوّل إلى إيديولوجية الموبوتية "Mobutism" لكسب تأييد الشعب ومنظمة الوحدة الإفريقية.
هكذا انخرطت كينشاسا في ورشة إرضاء المشاعر المناهضة للاستعمار عن طريق إقامة مناسبات، مثل تكريم "لومومبا" بعد فوات الأوان، ووضع إصلاحات مثل إلغاء الأسماء البلجيكية للمدن الكونغولية في منتصف 1966. واستمر هذا السعي نحو أفرقة "مزيّفة" مع إطلاق اسم جديد للبلاد وهو "جمهورية زائير"، بعد 27 تشرين الأول 1971، وتغيير علم البلاد في الشهر التالي. وفضلاً عن ذلك، جرى تبديل الأسماء ذات الوقع الأجنبي. غير أن كل تلك الإجراءات كانت شكلية. فالرئيس موبوتو كان تابعاً سياسياً واقتصادياً لواشنطن. وقد حظر موبوتو أزياء الداندي بعد أن شاركت السابورية فى حركة المعارضة الواسعة ضد سياسات موبوتو الديكتاتورية، وكان في صفوف الحركة "بابا ويمبا" (1949-2016)، أحد أشهر فناني الرومبا. وبذلك، وتحت مظلّة أفرقة البلاد والثقافة، قضى موبوتو على حركة الاعتراض وحركة التحرّر من الإستعمار في الكونغو.
يميل الاستعمار إلى تقويض الذاكرة والهوية الثقافية للشعب المستعمَر، لكن المفارقة في الحالة السابورية هي أنها شكّلت إنقلابًا تاماً على هذه الاستراتيجية. فقد كانت الملابس ذات أهمية خاصة أثناء الهيمنة الاستعمارية لأنها كانت الرمز المرئي للعلاقة بين المُستعمِر والمُستعمَر. البلجيكيون والفرنسيون قدّموا الملابس الأوروبية للأفارقة كمحاولة منهم "لترويض" الأفارقة من خلال الموضة. لكن الكونغوليين، بدلاً من القبول السلبي للأزياء الأوروبية، أعادوا تفسيرها وترجموا الخضوع إلى تحرر، وأعادوا تصميم الزي الأوروبي بما يتناسب مع تقاليدهم ومحيطهم الطبيعي، فنتج عن ذلك أزياء تنبض بالحياة والألوان والتنوّع. وهكذا منعوا هيمنة الأوروبي وإبادة الأفريقي. تحوّل موقف السابور الكونغوليين إلى وظيفة إبداعية تتعارض تمامًا مع هدفها المستعمِر، وذلك من خلال إعادة التفسير والاستيلاء الثقافي المضاد. حافظ السابوريون على بعض خصائص القوة المهيمنة المستبدَلة، لكنهم شوّهوا معناها الأعمق. هذا ما أكد عليه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عندما أشار إلى القوة الثنائية للسياق القمعي للسلطة، أي بُعدي "الحقيقة" و"الواقع"، وهو ما انعكس بالكامل في تأسيس الحركة السابورية التي خلقت في الكونغو واقعًا جديدًا، أو بالأحرى هوية جديدة لفترة ما بعد الاستعمار، وبالتالي ما كان سابقاً قوّة مدمرة، أصبح دافعاً إبداعياً.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة