"إذا كانت الفنون ترغب في مراعاة التعقيدات الثقافية والسياسية والاجتماعية لواقعنا الحالي، فإنها تحتاج إلى ظروف مناسبة تسمح بتنوع وجهات نظرها وتصوراتها وحواراتها."
افتتح منظمو فعالية دوكيمنتا 16 بيان استقالتهم بهذا التوصيف بعد حوادث واتهامات عدة وجّهت لهم على أثر انحيازهم للفسطينيين في برمجتهم للفعالية واختيارهم الأعمال الفنية المشاركة فيها. يُقام المعرض كل خمس سنوات في مدينة كاسل الألمانية ويُعتبر واحداً من أهم الفعاليات الدولية في مجال الفن الحديث. المعرض الذي تأسس من أجل تمكين ألمانيا من مواكبة الفن الحديث، و"التخلّص وقمع الظلام الثقافي الذي أنتجته النازية"، سعى منظّموه من بدايته لجعل هذا المعرض متاحًا لمختلف التيارات والتجارب الفنية الجديدة، ما يمنح الفنانين في جميع أنحاء العالم الفرصة للتعبير عن آرائهم ورؤيتهم بحرية تامة. وعلى الرغم من أن هذه المبادئ حدّدت توجّهات دورات "دوكومنتا" منذ بدايتها، عمد أعضاء اللجنة الأربعة الذين استقالوا مؤخراً إلى التعبير عن قلقهم إزاء تراجع أهمية هذه المبادئ في هذه الفترة. وفي بيان الاستقالة الذي نُشر في 16 تشرين الثاني 2023، أي بعد حوالي شهر و10 أيام على بداية طوفان الأقصى، حذّر الموقعون من تداعيات سوء استخدام قوانين معاداة السامية في ألمانيا لقمع الآراء غير المرغوب فيها وتحضير الاتهامات مسبقاً لأي رأي معارِض.
الملفت في هذا البيان، من بين الحملات والدعوات لمقاطعة المؤسسات الألمانية الثقافية والأكاديمية، أنه ينذر ببداية مرحلة جديدة في مسار سياسات المؤسسات والتجمعات الثقافية الغربية، والتي قد ترسم إطاراً جديداً للحقل الثقافي وديناميات العلاقة بين المؤسسات المانحة في الشمال والجهات المموَلة في الجنوب وسوف يكرس جهات ويهمّش جهات أخرى بما يناسب رؤية الجهة المانحة.
والملفت أيضاً صدور هذا البيان عن تجمع ألماني في عزّ الرقابة والقمع الحكومي والمؤسساتي الألمانيين وانحيازها للكيان الصهيوني، لتتشابه مواقف دوكيمنتا في بيانها مع بيانات ودعوات المقاطعة التي أطلقتها بعض المؤسسات العربية. وفي المنقلب الآخر، عملية خلع قناع المؤسسات والجهات المانحة الكبيرة الالمانية لا تزال مستمرة.
ولكن ما الجديد في كل ما عرضناه. من يغوص في لغة هذه المؤسسات، هنا وهناك، يعرف أن لا مجال إلا للتماهي مع سياسات المانحين. وفي مادة بحثية تدرس حالة إحدى المؤسسات الثقافية العربية ليقدموا تقريرهم عنها، وأخرى تدرس مؤسسة ثقافية تعمل في الاتحاد الأوروبي، كان واضحاً وجود تقاطع وثيق بين المادتين على صعيد عرض الرؤية والمهمة والأهداف والتوجه السياسي والاجتماعي والسياسات الداخلية والخارجية للمؤسستين. وبالفعل بعد عملية بحث قصيرة تتبع نهج "Follow the money" (اتبع المال)، ظهرت صلة الوصل بين المؤسستين: المؤسسة الأوروبية هي واحدة من الجهات المموِلة والداعمة للمؤسسة العربية.
وللوهلة الأولى، قد ندافع عن ذلك ونقول أن القيم المشتركة تعزز التعاون وتساعد في تحقيق الأهداف المشتركة، ولكن لماذا لا يحصل هذا التعاون أيضاً في مرحلة التخطيط، لإتاحة المجال لبلورة سياسات محلية مبنية على حاجة السياق المحلي والإقليمي؟ هنا تتشكّل الفجوة بالتوجه واللغة والخطاب التي تحمله هذه المؤسسات ضمن برامجها، ربما من دون قصد. ففي حين تحاول هذه المؤسسات الثقافية العربية سدّ ثغرة موجودة منذ عقود في الحقل الثقافي العربي نتيجة غياب مؤسسات الدولة على المستوى الثقافي وخطط التمويل والدعم الحكومي، وجدت تلك المؤسسات نفسها تسدّ هذه الثغرة بـ "فلّينة افرنجية".
هذه العلاقة المبنية أساساً على التمويل ساهمت في خلق حالة من الاتكالية التي أدت إلى تكريس دور الجهات المانحة كملجأ وحيد وأعطاها سلطة على الحقل الثقافي وجعل منها ذراعاً تحكُم بالتدخلات التي تناسب سياساتها وتوجهاتها، وما ينتج عن ذلك من مخاطر لناحية استمرارية هذه المؤسسات وفعاليتها شرط استمرار التمويل.
وبالعودة إلى المبادئ وأغراضها وتجلّياتها في الواقع، كيف تعلن مؤسسات ألمانية عن مبادئها؟ بكلام كالتالي: "مبادئنا الأساسية هي التنمية المستدامة، الديمقراطية، وحقوق الإنسان." و "نتبنى رؤيا تهدف إلى تطوير التعاون الوثيق بين مختلف مكونات المجتمع المدني" ،…" ملتزمون بوجهة نظر راديكالية فيما يخص التنوير والنقد الاجتماعي"، و"نقف مع أعراف الحركات العمالية والنسائية، وكذلك ضد الفاشية وضد العنصرية،" و"نعمل على توطيد القيم الأساسية للديمقراطية الاجتماعية أي الحرية والعدالة والتضامن،" و "نرتبط معنويًا بمبادئ الديمقراطية الاجتماعية وبالنقابات الحَّرة."
تردد هذه المبادئ مؤسسات ثقافية "عتيقة" مثل هينريش بول وفريدريتش أيبيرت وروزا لوكسمبرغ والتي تُعتبر مؤسسات ذات توجه تقدمي إجتماعي وقد تدّعي الاشتراكية والراديكالية. فعندما يقرأ شخص هذه المبادئ قد يراها نبيلة ومتقاطعة مع رؤيته لبلده ومجتمعه، ولكن الواقع هو أن خلف هذه الكلمات والجمل المنمقة استعدادًا للانعطاف عند أول تباين بين القيم المعلنة والمواقف التي تتبناها على أرض الواقع، وآخر إخفاقاتها وأكثرها وضوحاً كيفية التعامل مع طوفان الأقصى وحملة التطهير العرقي المستمرة التي يمارسها الاحتلال الصهيوني في غزة. ربما اختلفت ردود فعل هذه المؤسسات من حيث الشكل ولكنها توافقت جميعًا على التطرف في الموقف واستخدام تهمة معاداة السامية بكل ما هو متعلق بأي فعل أو بيان أو توجه داعم ومتضامن مع فلسطين، فجمّدت مؤسسة هينريش بول قرار تقديم جائزة أدبية كان من المفترض تسليمها للكاتبة ماشا جيسن بعد أن نشرت مقالاً في صحيفة "نيويوركر" وشبّهت المجزرة في غزة بالغيتو اليهودي في وارسو. اضطرت المؤسسة إلى تبرير "فعلتها" بطريقة يمكن وصفها بالاستغباء، إذ غرّدت المديرة الفنية للمؤسسة موضحة أنها "كانت في إجازتها السنوية حين اتخذ قرار تأجيل تسليم الجائزة للكاتبة ماشا." يتردد في هذا الجواب صدى جواب المهندس الروسي أناتولي دياتلوف بعد كارثة تشيرنوبل النووية حين قال خلال جلسة المحاكمة: "لم أكن هناك، كنت بالحمام لحظة وقوع الحادث".
من ناحيتها، ألزمت مؤسسة روزا لوكسمبرغ موظفيها بحذف بيان أعلنوا فيه تضامنهم مع الفلسطينيين في غزة. أما مؤسسة فريدريش إيبرت فعمدت إلى تجاهل ما يحصل ومتابعة برامجها القائمة على "تمكين قيادات سياسية واقتصادية وثقافية من الشباب في المنطقة"، من دون الخوض في السياسة والحدث الأهم الآن وهنا وحول العالم.
هذا غيض من فيض ازدواجية المعايير وكمّ الأفواه وتعزيز السرديات التي تخدم مصالح هذه المؤسسات وخاصة الألمانية منها. لكن الأهم هو وضع هذه الأنماط في حيز المساءلة حتى لو لم يكن ذلك من الأولويات أمام الجريمة المستمرة وعدّاد الموت اليومي. أهمية هذا البحث والمساءلة تكمن أولًا في تقفّي أثر هذه السياسات "الثقافية" على الموقف والفعل عندما يصبح الاشتباك ضرورة، وثانياً في مراجعة دور الفاعلين الثقافيين في هذه الفترة في ظلّ المسؤولية الجماعية، وثالثاً في ضرورة التحرّر من هذه المؤسسات ومن تمويلها قبل المناداة بتحرير شعوبنا من الطغيان.
الصورة: رجل وامرأة يتأملان منحوتة "الأم مع إبنها الميت" (1937) لـ كاثي كولفيتز في برلين، ألمانيا.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة