ثلاثون خطوة إلى الهاوية

“الأمر على ما يرام حتى الآن، ليس المهم كيف نسقط، بل كيف نهبط”.
من فيلم La Haine (الكراهية) 

في صباح يوم 11 فبراير من العام 1963، كانت سيلفيا بلاث في الثلاثين من عمرها حين وضعت رأسها في فرن مطبخها، واستنشقت كفايتها من غاز أول أكسيد الكربون حتى وُجدت منتحرة بعد ساعات. لعلها، في لحظتها الأخيرة، لم تبحث عن موتٍ جسدي بقدر ما كانت تبحث عن موت اللغة، عن لحظة يصمت فيها الكلام أخيرًا، فيتجلى الجسد كما هو: بلا استعارات، وبلا رموز.

في الثلاثين، أيقنتُ أنا أيضًا أن الإنسان حين تموت لغته، يموت هو أيضًا، أو ينتحر.
الموت أمرٌ حتميّ، لكن تفسيره هو ما يحدّد مصيرنا في النهاية. أحيانًا نعجز عن تفسير الألم، فنسقط تحت ثقل ما لا يمكن تأويله أبدًا.

اعتدت على تأويل السقوط من خلال الكلمات لأنني كنت أخاف من القفز، إلى أن تحوّلت تلك الكلمات إلى لغة تحول بيني وبين احتمالية السقوط، وبين احتمالية القرار.

تشريح السقوط
يبدأ فيلم “تشريح السقوط” (إخراج: جوستين ترييه) من حادثة غامضة: سقوط رجل من نافذة. تُكتشف جثته على الأرض، ويُقال إنه انتحر، لكن زوجته، التي هي كاتبة مشهورة تُدعى “سندرين” (سيرين دونسيت)، تصبح محط التحقيق بعد أن تُتهم بقتله.

في إطار المحاكمة، يطرح الفيلم تساؤلات عميقة حول الحقيقة والعدالة، ويستعرض المدى الذي يمكن أن تصل إليه اللغة في تشكيل الوقائع والتأويل. لا تقتصر القضية على ما حدث بالفعل، بل تتوسع لتشمل كيفية بناء كل طرف لروايته، لتشكّل بذلك جدلية لغوية في تقاطعات الحب، الخيانة، والتمثيل.

السقوط الذي نراه في الفيلم هو سقوط الحقيقة التي تتبدد تحت وطأة الروايات المختلفة. السقوط، من هذا المنظور، هو هزّة في قوام الواقع، حيث يُستحضر القاضي واللغة والشهادات لتفكيك تلك اللحظة الهشة. وكما يقال في الفيلم، اللغة هي ساحة المعركة.

اللغة كحاجز بيننا وبين الموت

كما في الفيلم، تصبح اللغة هي الطريقة الوحيدة لقراءة الجريمة أو الفقد، يمكن أن تلعب اللغة دورًا في إبعاد الإنسان عن الموت الحقيقي. لا يمكن للإنسان أن يعرف الموت إلّا من خلال تحويله إلى رمز. قد تلعب اللغة دور هذا الرمز، الذي يقف حصنًا منيعًا بينه وبين إدراكه.

تمضي السنوات تمامًا كما تمضي الكلمات: تسقط بسهولة، مثلما تسقط حبّات مسبحةٍ من بين أصابع شخصٍ جاحد. كانت علاقتي مع الأشياء التي امتلكتها معقدة: أردتُ أن أحبسها في داخلي رغماً عنها، أن أصوغها في هيئةٍ غير ما قُدّر لها أن تكونه، وهي التي وُلدت حرّة بلا سيّدٍ ولا عائلة.

يبدو الأمر مستحيلاً، أن يبدأ العمر بقفزة كهذه، حيث يتغير عندها حتى ملمس قدميك الحافيتين على البلاط البارد. فجأة تجد أنّ المواسم باتت أقصر، والزهور باتت ملوّنة بشكل غريب، وفكرة الحب لم تعد هاجزًا عظيمًا كما في العشرينات.

أعدّ عمري الآن كأنه رقم، رقم بسيط أو خطوات. ثلاثون خطوة، أسهّل الأمر على نفسي، أختصر عمري بعدد خطوات ليس بكبير. أقول: إنّ هذه هي المرّة الأولى التي أشعر وكأنني قفزت من شيء ما، وسقطت خارج المعنى.

الهاوية والقطط: موت الفضول

نظرتُ إلى الهاوية مرارًا مثل قطّ يسير بخفة على درابزين الشرفة، ينظر إلى العالم، خائفًا ومندهشًا في آن معًا. تمتلك القطط أرواحًا كثيرة، كما تقول الجدّات.
تقفز القطط إلى أقدارها، ليس بهدف الخلاص، بل بهدف الفضول أحيانًا. كانت علاقتي مع الهاوية تشبه شيئًا من فضول القطط، لكن ما كان مختلفًا حقًا هو أنّه لا يمكن لأجسادنا استيعاب فكرة الموت. الفكرة فقط مؤلمة بالنسبة إلينا، فكيف الموت نفسه؟

أثناء النظر إلى الهاوية تأتي القفزة كإجابة حتمية على كل شيء. تدرك القطط ذلك جيّدًا، إذ في فعل القفز إجابة لفضولها. لكن ما لا تدركه هو أن الفرق بين السقوط والقفز ليس سوى مسألة هبوط. لا تملك القطط سبعة أرواحٍ، إنها أسطورة تناقلتها بعض الثقافات بسبب مرونة القطط ورشاقتها. لكن الإنسان يمتلك مرونة في اللغة بعكس مرونة جسده. كما يمتلك أيضًا سبع خطايا، بإمكان كل خطيئة أن تضعه أمام هاوية سحيقة بينه وبين نفسه.

السقوط كفعل ضروري للوعي

تسقط الذات من أفواه أصحابها مترنّحةً مثل ذبيحةٍ، متأرجحة بين الحياة والموت، وتلمع كسكّين مطبخٍ أمام نافذةٍ تطلّ على عاصفة.
كنت أظنّ أنّ وظيفة اللغة هي أن نُلزم أنفسنا ببوحٍ لا يرحل عنّا، بل يجدّد ولاءه لنا عبر اعترافنا بملكيّته. لكن الذات كانت تسقط دائمًا حينما تحاكم على ما لا يمكن قوله.
ظللتُ أحاول أن أبني شيئًا لا يرحل ولا يموت، شيئًا أكبر من جسد وأكبر من كلمة، لكن موج الغرق كان يفيض فوق قلاع اللغة. كانت تجد اللغة دائمًا طريقها للاستشهاد.

اليوم، أنظر إلى كل أوراق الخريف الملقاة على الأرصفة، وأفكّر: كيف تسقط تلك الجثث الصفراء بكل تلك العذوبة؟ لابدّ أنّها اختارت أن تقفز إلى موتها لتصير شيئًا آخر فقد معناه الأصلي.

الجسد هو الموقع الذي تفشل فيه اللغة

في الثلاثين، قفزت سيلفيا بلاث بنفس الطريقة: من خريف ولادتها (27 أكتوبر) إلى برد موتها، معلنةً تحوّلها إلى شيءٍ آخر يفوق الوصف واللغة. أعلنت خريف العالم ورحلت، ولم تعد ملكًا لمعنى الأشجار ولا القصائد الخضراء.

في ذلك العمر نفسه، بدأ المسيح تبشيره (كما ورد في إنجيل لوقا)، فتح باب اللغة، تلك التي لم تكن أداة لنقل المعنى فحسب، بل وسيلة للخلاص، جسرًا بين الكلمة والجسد، بين القول والفعل، بين الخلاص والفقد.

في لحظة الموت، يموت الجسد ليس كفعلٍ عادي، بل كفعلٍ تشريحيّ لروح اللغة نفسها. يصبح الجسد رمزًا لا للموت فقط، بل لفقدان كلّ معنى كان قد زُرع فيه. هناك، حين تنكسر الكلمة داخل الجسد، يتجلّى الصمت كأصدق أشكال الكلام.

الآن أقف على عتبة العمر نفسها، وأجد أنّ اللغة التي انفجرت في داخلي يومًا، أرادت أن تتحوّل إلى شيءٍ منفصلٍ عنّي، أكثر حريةً منّي، كنداء استغاثةٍ. 

تلك اللغة عادت ووجدت طريقها إليّ، كنتُ أصرخ طوال الوقت من أسفل الهاوية، لكي يسمعني هذا الشخص الذي أنا عليه اليوم. وحده كان قادرًا أن يسمع، أن يفهم تلك اللغة، وأن يدفّئ النيران المضرّمة فيها، عوضًا عن العالم الذي لم يحترق رغم شدّة سطوعها.