موجة استماع في مسرح الجريمة

“متل الأربعا بنص الجمعة” ظهرت مسرحيات وفقرات زياد الرحباني كنموذج سمعيّ، وشكّلت موجة، قبل موجة الاستماع الحالية (البودكاست)، وبعد موجة الاستماع الأولى (الإذاعة)، منذ منتصف سبعينات القرن العشرين.

كما في كل حدثٍ عسكريّ استعماريّ نعرفه، تهرع الصناعة، بعقولها، لتلبيّ حاجة العسكر. فتصقل السوق، ومعه السلوك، ومن ضمنه آذان السامعين. هكذا تدور بنا الأيام منذ ما يقارب المئة وخمسين عامًا على الأقل في هذا المشرق الحزين… حزين ولكن سمّيع.

رحلتنا مع الراديو من أمرك سيدنا إلى أحداث حوادث لبنانية

دخل الراديو إلى بلاد الشام مطلع القرن العشرين. ربما يمكننا القول بأنه أتى للسياحة كأولى زيارات المستشرقين. ثم عاد غازيًا كمستعمِرٍ عاديّ. أول دخول الراديو كان للاقتناء ولمحاولة سماع بعض البث الأجنبي عبره. كان يقتصر على بعض الأعيان. ثمّ مع حملات الاستعمار، الانتداب حسب علم الغيب، تمّ افتتاح إذاعات للشرق… الأدنى.. الحزين. كان الراديو يبثّ تقارير الجيوش وأخبارها في حربها العالمية الثانية (1939). ثمّ أصبح يطعّم الملل العام وانتظار الجمهور في لبنان وسوريا وفلسطين على أي “دولة” سترسو اللعبة (إنّ أي تشابه مع اليوم ليس محض صدفة)، يطعّم ببعض الموسيقى. 

كنّا – نحن سكّان البلاد – نستمع إذًا إلى أمرك سيدنا. ليست أمرك سيدنا أسطوانة زياد الرحباني التي أصدرها عام 1987 ولكنها أمرك سيدنا بكل ما للكلمة من معنى. استماع إلى ما يقرّره السير (sir) مباشرةً. فتوحات جنوده فينا وبعض الموسيقى من الكلاسيك الأوروبي ثم بعض التطعيم الشرقيّ لجذب الجمهور. ثمّ تغيّرت الإذاعة مع قرار سيدنا. أصبحت أكثر محليّة وصرنا نستمع إلى بعض الأخبار وإلى فرق الإذاعة. بالمناسبة… دخل زياد الرحباني إلى فرقة الإذاعة اللبنانية وشارك في العزف والتأليف – يُنصح هنا بالاستماع إلى ألبوم بالأفراح الذي أصدره عام 1977 مع فرقة الإذاعة. 

ثمّ بدأت الحرب اللبنانية الشهيرة، رسميًا عام 1975. فأصبحنا نستمع إلى أحداث حوادث لبنانية كما سمّاها زياد. نشرات من الأخبار وموجز كل ساعة. ثم خبر عاجل. ثم مقاطع موسيقيّة وبعض الحوارات. ثمّ، وفي العام نفسه من أجل جمالية الصدف (المقصودة)، ولإحياء الليالي الطوال من التعايش بين أبناء البلد، نستمع إلى زياد. برنامج إذاعي عبر الراديو يقدّم فيه فقرات ساخرة حدّ الحزن… الحزن السمّيع عنه. يعلن أننا “بعدنا طيبين قول الله” ويستمرّ. فيبثّ الراديو أيضًا أغنيات له وللرحابنة وآخرين ويبثّ مسرحياته. قدّم مسرحياته على المسرح، في مسرح الجريمة خلال الحرب، ثم سجّلها على كاسيتات ونشرها.

فكانت هذه رحلتنا في موجة الاستماع الأولى من أمرك سيدنا إلى أحداث حوادث لبنانية… قفل فيها زياد الفترة.

مسرحيّة بكامل مشاهدها على الراديو أو عبر الكاسيت

ليس هذا اختراعًا طبعًا. اشتهرت الأعمال المسرحية المسجّلة قبل ذلك. ولكن لا شكّ أن مسرحيات زياد الرحباني قد طبعت أجيالًا عبر الصوت. المستعمِر يحتلّ أذن السامعين ويعمل زياد على خرق الصمغ فيها. يبثّ جديدًا. يبثّ واقعًا. يبثّ ماضيًا… و”الأضرب” من ذلك كله أنه يبثّ مستقبلًا. أخبار اليوم في مسرحية من الثمانينات… هل يجوز؟ جاز. جاز الفعل وليس النوع الموسيقيّ الذي قرّرت الصحافة الغربية أنّ زياد ألّف فيه. 

لا تتوقف الراديوهات عن بثّ مسرحيات زياد الرحباني – الأربع الشهيرة: نزل السرور، وبالنسبة لبكرا شو، وفيلم أميركي طويل، وشي فاشل. أحيانًا تبثّ أيضًا مسرحية سهريّة التي تشكّل انطلاقته في الأعمال المسرحية الموسيقية ولكنها لا تشكّل تمايزًا راديكاليًا عن عموم مسرحيات الأخوين رحباني. أما المسرحيات الأربعة المذكورة فهي ثابتة. أعمال تُحفظ سمعًا عن ظهر قلب. تشكّل لغةً ولهجةً جديدةً. تشكّل شخصية الأجيال من السبعينات حتى أواخر التسعينات. المقاتلون منهم، الغائبون والتائبون والضائعون والمصرون على ارتكاب الجريمة والمسرح والموسيقى… كلّهم طُبعوا بمسرحيات زياد. سمعًا بلا طاعة طبعًا كما شاهدنا سير المعارك. كلهم أخوة، يقولون، ولكن لا يطيعون. تلتها مسرحيات ما بعد التسعين وهي مصوّرة.

أصواتٌ من تلك الفترة، ما بين موجتي الاستماع، حُفظت من دون أشكالٍ، من دون انترنت، من دون جهد. الراديو يبثها عبر الإذاعة أو الكاسيت أو الأسطوانة لمن استطاع إليها سبيلًا والجمهور يحفظها ويعيد استخدام جملها وحركاتها المتخيّلة وأصواتها من دون تردّد وفي كل المناسبات… عند شراء السلامي من الدكان أو عند الشعور بالندامة من أحداث البلاد. يبدو أننا أضجرنا زياد الرحباني لكثرة ما حفظنا. سمّيعة تسبّب الحزن.