وحدك

لديّ حنين لذكرى حب قديم لم أعشه أبدًا، عشقُ فلسطيني لحبيبة ملامحها كفكرة باطنية لا تطالها اللغة. حضورها حجر نيزكي يشعّ في زمن آخر. تلاقَينا في موعد غرام خططنا له في سبات غيبوبتي الأولى في بيروت .
أطلّت هي. وجدَتني نائمًا كَميت فوق بيانو متهالك في صالة رقص بمطعم شيوعي مهجور، لم يفتتحه صاحبه الجديد حين عرف أنه كان يستخدم سرًا كبيت للبغايا في زمن آخر من شارع الحمرا.
دخلَت تزحَف مُتلصّصة، وكنت مغمض العينين غارقًا بوفاتي، فوضعت يدها الناعمة على صدري لتجس خفقان قلبي، ثم أزاحت أصابعها إلى فوق، فارتفع جسدي معها في الهواء كطيران قطّة تعشق اللعب. كانت كلما جذبتني أزدادُ خفّة وارتفع، كما لو أن لا وزن لي أو أن الأرض خارت قواها أمام فتنتها.
تحرّكت مفاتيح البيانو أخيراً لتعزف نغمات مألوفة كأنها “بلا ولا شي” لزياد الرحباني.
كانت تحبّها كأغنيتها، وحين سمعتها طارت هي أيضًا فجأة في انسياب مُحكم… صرنا متناغمين كراقصين، عراة في مكوك يسبح في فضاء لا ينتهي… تلاحم شهيّ لأجسادنا في هيولية طقسٍ وثنيٍ يتحدّى أساطير فيزياء الكم.
تدور ثم تلفّ وتلفّ كزاحف تتلوّى، فيتغيّر جلدها، تسقط حراشفها لتأخذ مسام جلدي الجديد. فتصير أنا. نفرح ونركض ونقفز معاً كوطاويط صغيرة في شوارع بيروت حاملين كؤوسنا الفارغة وقلوبًا ترفرف في عتمتها.
صوت الموسيقى يعلو من البيانو ليغطي ضوضاء المدينة بنشاز ماركسي حزين، يطربنا شجاه، فتصير المدينة بأحاديثها وأصواتها لحن فصام شبقي يشبه الخيال، لا يفصلنا عنه سوى صيحات سائقي التاكسي من حولنا.
وتنبهنا أن قُبلاتنا أطول من المطلوب وعلينا أن نكفّ الآن. لنحكي في السياسة والاقتصاد وضياع البلاد.
لكن سرعان ما تذوب أصواتهما وتتحوّل هي الأخرى إلى نغمات لزياد… بلا ولا شي… بلا ولا شي.
وحدك
بلا ولا شي