“كابتن كوك” في أستراليا: من “الاكتشاف” إلى الإبادة

تُروى رحلات الكابتن جيمس كوك بوصفها مغامرات علمية عظيمة، وإنجازات استكشافية للبشرية جمعاء. لكن خلف هذا السرد المتوهّج، تختبئ وقائع من العنف المسلح، والاستيلاء القسري على الأراضي، والدماء التي أُريقت باسم “التقدم”. إن فهم دور كوك لا يمكن أن ينفصل عن المشروع الإمبريالي البريطاني الذي خدمه، والذي حوّل أستراليا إلى مسرح لإحدى أطول عمليات الاستعمار الاستيطاني والإبادة الجماعية في التاريخ الحديث. عام 2018، خصصت الحكومة الاسترالية خمسون مليون دولار أسترالي لفعاليات ونُصب تذكارية في إطار الترويج لسردية “الإنجاز الاستعماري الأوروبي”، محاولةً تعزيز الفخر القومي بتاريخ الاستيطان الأبيض في أستراليا. لذلك، بدلًا من الاحتفال غير النقدي بتاريخ ملطّخ بالدماء، هناك ضرورة لكشف الحقيقة التاريخية، ومواجهة الإرث الاستعماري البريطاني، ودعم نضالات السكان الأصليين المستمرة من أجل العدالة والكرامة والحقوق.
زيف المستعمِر وعنف الإستيطان
رحلة كوك، التي كثيرًا ما توصف بأنها علمية، كانت في الواقع جزءًا من التوسّع الاستعماري البريطاني في لحظة حاسمة من نمو الرأسمالية. لقد جاءت هذه الحملات الاستعمارية تزامنًا مع بدايات الثورة الصناعية في بريطانيا، وبعد 5 سنوات فقط على اختراع جيمس هارجريفز لآلة “سبينينغ جيني” (Spinning Jenny). وهي آلة غزل مكّنت من غزل عدة خيوط في وقت واحد، ساهمت في انطلاق الثورة الصناعية، ما فتح شهية الإمبراطورية البريطانية للموارد الجديدة والأسواق والسيطرة على الأراضي. وفي الفترة نفسها، كان جيمس وات يعمل على بناء أول محرّك بخاري فعّال.
في أبريل من عام 1770، وصلت سفينة “إنديفور” البريطانية بقيادة الملازم جيمس كوك إلى الساحل الشرقي لما كان يُعرف آنذاك باسم “نيو هولاند”، والذي يُعرف اليوم بأستراليا. عند اقترابهم من اليابسة، التقى طاقم السفينة بشعب “غويغال” (Gweagal) المحلي، الذين تصدّوا بشجاعة لهذا التوغّل المتغطرس. رمى أحدهم حجرًا، فردّ كوك بإطلاق النار من بندقيته، فأصاب الرجل في ساقه. ثم أطلق الطاقم البريطاني المزيد من الأعيرة النارية لتفريق من كانوا يدافعون عن أرضهم بالرماح. سجّل كوك في دفتر يومياته مقاومة السكان الأصليين لفرقة الإنزال البريطانية، وكتب: “كل ما بدا أنهم يريدونه هو أن نرحل”. لكن بدلًا من الرحيل، رُفع علم الاتحاد البريطاني على الخليج الذي نزلوا فيه، وأُطلق عليه اسم “بوتاني باي”. كما سرق كوك الدروع والرماح التي تركها الغويغال خلفهم، ولا تزال هذه القطع محفوظة في المتحف البريطاني حتى اليوم.
في عام 1788، بدأ الاستيطان البريطاني الفعلي مع وصول “الأسطول الأول”، المكوَّن من إحدى عشر سفينة، حملت ما بين 1000 و1500 شخص، من مدانين وجنود وبحارة وموظفين مدنيين. أنشأ هؤلاء المستوطنون مستعمرة عقابية وبدأوا في الاستيلاء الوحشي على الأراضي. لم يمض وقت طويل حتى نُفّذت مجازر بحق مجتمعات السكان الأصليين التي قاومت الغزو.
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أُقرّت في كوينزلاند قوانين عنصرية تحت مسمى “قانون حماية وتنظيم السكان الأصليين” عام 1897. ورغم أنها صيغت ظاهريًا لحماية السكان الأصليين، فإنها كانت أدوات للسيطرة العنصرية، إذ منحت الدولة سلطة شبه مطلقة على حياتهم، كنقلهم قسرًا إلى محميات نائية، وسحب الأطفال من عائلاتهم، فيما عُرف لاحقًا بـ”الجيل المسروق” وفرض وصاية الدولة على الأجور، والزواج، والتعليم، والعمل، والتنقل، إضافة إلى تجريم العيش خارج المخيمات المخصصة دون تصريح رسمي. كتب الصحافي جون بيلجر: “بتأثير من نفس حركة تحسين النسل التي ألهمت النازيين، كانت قوانين الحماية في كوينزلاند نموذجًا لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا”.
كانت بريطانيا عازمة على أن تؤسس لنفسها موطئ قدم في تلك المنطقة. وقد قُدِّمَت رحلة كوك على أنها تهدف إلى نقل علماء إلى المحيط الهادئ لمراقبة لحظة عبور كوكب الزهرة أمام الشمس. وكان طاقمه، الذي ضمّ فلكيين ونباتيين، واحدًا من بين ثمانين بعثة أوروبية شاركت في هذا المشروع العلمي.
لكن كوك كان يحمل أيضًا مجموعة من الأوامر السرّية، لم يُسمح له الاطلاع عليها إلا بعد الانتهاء من دراساته الفلكية. وعندما فُتحت هذه الأوامر، تبين أنها تنص على أن عليه “مراقبة طباع وأمزجة وأعداد السكان الأصليين، إن وُجدوا، والسعي بكل الوسائل المناسبة إلى إرغامهم على الرضوخ بأي ثمن، باسم ملك بريطانيا العظمى”.
تبيّن لاحقًا أن البحث العلمي حول “عبور كوكب الزهرة أمام الشمس” لم يكن سوى تفصيل اختياريّ. فقد تم الاستيلاء على أراضٍ شاسعة لصالح الإمبراطورية، وتم القضاء على سكانها الأصليين، أو الأبورجينال، الذين يُعدّون من أقدم الشعوب التي سكنت الأرض، وتُعدّ رسوماتهم التي تعود إلى 17 ألف عام من الأقدم في العالم. وعندما وصل الأوروبيون، كانت هناك 126 مجموعة قبلية تنقسم إلى خمس مجموعات إثنية، وتتحدث أكثر من 300 لغة، لم يتبقَ منها اليوم سوى 16 فقط، بسبب التهميش الثقافي والهيمنة الإنكليزية.
اعتزَّ الأبورجينال بثقافتهم، وعاشوا وفق نمط بيئي متوازن؛ يزرعون الأرض، ويصطادون الكنغر، ويستخدمون الكلب الأسترالي في الصيد. لكن منذ أن وطأت أقدام البريطانيين القارة، قُتلوا واستُعبدوا وهُجّروا قسريًّا واستخدموا كعمالة رخيصة. ولا تزال سياسات التمييز والعنصرية تلاحقهم حتى يومنا هذا.
في البداية، حاول كوك كسب ودّ السكان المحليين عبر الهدايا، وسعى لفهم ثقافاتهم. لكنه كان مستعدًا أيضًا لاستخدام القوة لمعاقبتهم وفرض التفوق الأوروبي، كما حصل مع شعوب الماوري، وتونغا، وغيرهم. كما أدخلت سفن كوك أمراضًا جنسية فتّاكة إلى جزر مثل نيوزيلندا وهاواي. واستخدم طاقمه سلعًا أوروبية مرغوبة مثل المسامير الحديدية والأدوات وقطع الغيار لإجبار النساء المحليّات على ممارسة الجنس. ومن المرجح جدًا أنهم ارتكبوا أيضًا حالات اغتصاب.
تاريخ الإمبريالية مليء بالوحشية، لكنه أيضًا حافل بالمقاومة الشجاعة، كما اكتشف كوك بنفسه. ففي عام 1779، وخلال رحلة أخرى، كان كوك في هاواي، حيث اصطدم ببعض السكان المحليين، رغم تقديم آخرين المساعدة له. وعندما استولى بعض السكان على قارب صغير من قوارب كوك، ردّ البريطانيون بإطلاق النار. وحصلت معركة بين المستعمِرين والسكان الأصليين، وضُربَ كوك على رأسه وطُعن حتى الموت بعد أن عانى السكان الأصليون من بطشِه.
الإبادة مستمرّة
اليوم، وبعد مرور 255 عامًا على وصول جيمس كوك إلى الساحل الشرقي لأستراليا، لا تزال الإمبريالية والعنصرية البنيوية تمارسان ضدّ السكان الأصليين. فقد بُنيَت الدولة الأسترالية على إنكار وجود الشعوب الأصلية وحقوقهم، ولا تزال تُدار وفق منطق “الأرض المباحة”، حيث لا حقّ ولا سيادة للسكّان الأصليين.
فالسّكان الأصليون في أستراليا اليوم هم الأكثر تهميشًا وفق مؤشرات التعليم، والصحة، والدخل، والسكن. ويُتوقع لهم عمرٌ أقصر بعشر سنوات مقارنة ببقية السكان، ويُسجَّل في مجتمعاتهم أعلى معدلات الانتحار، خاصة بين الشباب. رغم أنهم يشكلون 3.2% فقط من السكان، فإنهم يمثلون أكثر من 30% من نزلاء السجون، وغالبًا ما يُسجنون لمخالفات بسيطة يُغض الطرف عنها حين يرتكبها غيرهم. وقد مات أكثر من 500 شخص من السكان الأصليين في السجون الأسترالية منذ عام 1991 دون محاسبة تُذكَر.
أما على صعيد الحقوق السياسية، فقد فشل الاستفتاء التاريخي في 2023 الذي كان يهدف إلى إنشاء “صوت للسكان الأصليين في البرلمان”، ما كشف عن عمق الانقسام العنصري في البلاد، وعن استمرار الهيمنة الاستيطانية في رفض الاعتراف بالمظلومية التاريخية.
الإمبريالية ليست حدثًا مضى، بل منظومة حية يُعاد إنتاجها كل يوم من خلال القوانين، والمؤسسات، والسجون، والخرائط، والمناهج الدراسية، وأسواق العمل، وكل أشكال الهيمنة البيضاء. ومع ذلك، فإن نضال الشعوب الأصلية لم يتوقف يومًا. فمن المقاومة المسلحة في وجه الغزاة، إلى الحركات الحديثة مثل “حياة السود مهمة” و”سيادة بلا تسوية”، يواصل أصحاب الأرض في أستراليا وكندا، وأمريكا، وفلسطين، وهايتي، وبابوا الغربية مقاومة محوهم القسري، وتمسكهم بالأرض، واللغة، والذاكرة الجماعية، والعدالة التاريخية.
إن المعركة ضد الاستعمار الاستيطاني والعنصرية الممنهجة ليست مسألة ماضٍ يجب الاعتراف به، بل حاضر يجب تفكيكه ومستقبل يجب انتزاعه من أنياب الفاشية بجميع اشكالها.