حتى الآلِهة تتبع الحِميَة

في عمله الشهير “نظرية الصورة” (1994) طرحَ الباحث الأمريكي ويليام جون توماس ميتشل مفهوم “المنعطف التصّويري” (Pictorial Turn) مفصّلًا وظيفة هذا التحوّل في الثقافة البصرية المعاصرة، معلنًا رفضه لهيمنة اللغة اللفظية (verbal language). يرى ميتشل أن “المنعطف التصويري” متجذر في علم اللغويات. وقد تناول في دراسته دور الصورة وعلاقتها بالنص، إن كان من خلال وضعها في مقابل النص أو في مزيج من الصورة والنص، وهو ما يشير إليه بمصطلح “نصّ الصورة” (Image text). وبحسب ميتشل، فإن اللغويات، والسيميائيات، والبلاغة، والنظريات المختلفة لـ”النصيّة” أصبحت اللغة المستخدمة للتأمل النقدي في الفنون المعاصرة ووسائل الإعلام والإنتاجات الثقافية الأخرى. بالنسبة لميتشل، فإن الطبيعة وتمثيلاتها العلمية ما هي إلا خطابات، بينما المجتمع هو نص. ومع ذلك، يقول ميتشل: “يبدو من الواضح أن تحولًا آخرَ حول ما يتحدث عنه الفلاسفة يحدث، وأن تحولًا معقدًا ذا صلة وثيقة يحدث مرة أخرى في تخصصات أخرى من العلوم الإنسانية وفي المجال الثقافي العام”. وهذا ما يشير إليه ميتشل باسم “المنعطف التصويريّ”. وكما ذكرنا سابقًا، فقد عرّف ميتشل وأعلن عن مفهوم “المنعطف التصويريّ” باعتباره حركة ضد هيمنة اللغة اللفظية.


***

على مرّ التاريخ، شهد دور المرأة في المجتمع تحولات عديدة بفعل الحروب والأزمات الاقتصادية وتبدّل علاقات القوة بين الجنسين. ويبدو أن “المنعطف الثقافي” (Cultural Turn) و”المنعطف التصويري” (Pictorial Turn) كانا عاملين رئيسيين في هذه التغيّرات.

في هذه الزاوية التي أطلقنا عليها إسم “فوبيجو” (Faux Bijoux) أو “جواهر مزيّفة”، نعرض أفكار ومفاهيم مفيدة حول الثقافة البصرية، مصحوبة بتحليلات لصور أغلفة مجلة Vogue (النسخة الأميركية) الصادرة من خمسينيات القرن الماضي حتى عام 2020 (تحديدًا العام الأول من كل عقد). وتم تصنيف صور النساء على هذه الأغلفة وفق أنماط مختلفة مثل “المرأة الواثقة”، “الأم العصرية”، و”الناشطة الاجتماعية الواعية”، وهي أطر تصويرية تعكس التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على تمثيل النساء خلال هذه العقود.

غالبًا ما يُنظر إلى حقبة الخمسينيات باعتبارها فترة التزام صارم بالأدوار الاجتماعية التقليدية حيث كان الرجال والنساء مطالبين بالامتثال لمعايير مجتمعية صارمة، تعززت بقوة عبر الصور والثقافة البصرية الجماهيرية.
في أميركا الخمسينيات، برز نموذج “الأسرة النواة المثالية”، والذي كان يتألف من أب أبيض من الطبقة الوسطى يعمل خارج المنزل، وأم ربّة منزل، وأطفالهما. هكذا، حُصرت هوية المرأة في دور الزوجة والأم، في حين كانت النساء يشكّلن جزءًا أساسيًا من القوى العاملة في فترة ما بعد الحرب.

تمتلك الصور البصرية، ولا سيما أغلفة المجلات، القدرة على إعادة تشكيل كيفية تصوير المرأة، فيتمّ التعامل مع المحرّمات، وإعادة صياغة الأدوار الجندرية. تُبنى هذه التمثيلات ويُعاد إنتاجها عبر عناصر متعددة، مثل تغيّر معايير الجمال، وظهور حركة الإيجابية الجسدية النسوية، وتمكين المرأة في سياق الخطاب النسوي. ورغم أن الصور المنشورة في مجلة Vogue قد تعكس الأدوار الجندرية المهيمنة في المجتمع، إلا أنها قد تساهم أيضًا في إعادة إنتاجها أو حتى في زعزعتها، حيث كانت الصور وما زالت تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الوعي المجتمعي في المجتمعات الغربية المعاصرة.

حزيران 1950:

في هذا الغلاف الصادر في يونيو 1950، نقرأ العنوان التالي: “خطة 90 يوم”، ويبدو أنه على الأرجح إشارة إلى برنامج حِمية يمتد ثلاثة أشهر. بالإضافة إلى ذلك، يبدو جسم المرأة-العارضة في الصورة نحيفًا، ربما في دلالة رمزية إلى نجاح “خطة التسعين يومًا”.
أول ما يلفت النظر إلى هذه العارضة هو أن وضعيتها تشبه وضعية تمثال إغريقي قديم. ذراعا العارضة مفتوحتان وهي تنظر بعيداً عن الكاميرا وتحدق بعيداً للأمام، مثل تمثال يدعونا جماله إلى ان نحدق فيه.
تقف العارضة أيضاً في الفراغ، بمعنى أن المكان عبارة عن مساحة غير قابلة للتحديد أو فارغة مما يجعل الغلاف أقل حيوية و لأغراض جمالية فقط بحيث يتناسب لون الخلفية مع لون الملابس الموضة.
أخيراً، تتمتع العارضة ببشرة بيضاء فاتحة وشعر قصير وأحمر شفاه وحواجب رفيعة.

تموز 1950:

أول ما يلفت الانتباه في الغلاف هو وجود كوب الحليب في الصورة، تحديدًا في وسطها. كما أن العنوان الرئيسي لهذا العدد يشير إلى أن حمية الحليب الخالي من الدسم ستجعلكِ تخسرين (الفئة المستهدفة هي النساء) 10 أرطال. يبدو أن فقدان الوزن والمظهر النحيف كانا موضوعين رائجَين ومرغوبَين خلال هذه المرحلة (تذكّروا خطة الحِمية لمدة 90 يومًا على غلاف شهر يونيو).
تعابير وجه العارضة تظهر أنها تضع تركيزها في الكتاب، في حين أن النص الرئيسي هو “قارئة الصيف” وأيضًا “جمال الصيف”، ما يعكس أهمية الحفاظ على مزيج من الذكاء والجمال بالنسبة للمرأة بالنسبة للقيّمين على المجلّة. ما يثير الاهتمام أيضًا في هذا الغلاف هو موضِع عبارة “جمال الصيف”، حيث تم وضعها فوق عبارة “قارئة الصيف”. ربما يكون هذا محاولة للإيحاء بوجود نوع من التراتبية التي تضع الجمال في مرتبة أعلى من الذكاء.
علاوة على ذلك، تتمتع العارضة ببشرة بيضاء ناصعة، وتضع أحمر شفاه أحمرَ، وأظافرها مطليّة باللّون الأحمر، كما أن حاجبيها يبدوان رفيعين. لا يمكننا تخمين طول شعرها أو الملابس التي ترتديها، ولكن يمكننا أن نرى أنها ترتدي أقراطًا، ما يهدف إلى إبراز صورة معينة من الأناقة.

آب 1950:

أول ما يلفت الانتباه في غلاف أغسطس 1950 هو العنوان الرئيسي: “للفتاة الذكية داخل وخارج الجامعة”. قد تشير هذه العبارة إلى استكمال الدراسة الجامعية، مما يعكس المستوى التعليمي الذي يُتوقع من النساء تحقيقه.
ترتدي العارضة ملابس أنيقة مع أقراط وأحمر شفاه أحمر لتعزيز مظهرها الراقي. كما أنها تنظر بعيدًا عن الكاميرا بينما تحمل ما يبدو أنه حزمة رمادية أو ملف، ما قد يدلّ على أنها منخرطة في أعمال أو شؤون مرتبطة بالمهنة. شعرها قصير وملفت، الحواجب رفيعة، والبشرة فاتحة، وأحمر الشفاه بارز.
حركة يدها توحي بأنها ترفع يدها كما لو كانت تنادي سيارة أجرة، ما قد يعكس طبيعة حياتها المليئة بالحركة والانشغال.

تشرين الثاني 1950:

في إصدار تشرين الثاني 1950، نقرأ في العنوان الرئيسي “الجميع يطبخ!” مع علامة تعجب، ولكن العنوان الفرعي “قوائم طعام جديدة، تقنيات وقت جديدة” قد يشير إلى أن الطهي سيتم تكييفه ليتناسب مع ظروف المرأة العصرية.
الملابس والخلفية تدلّان على أن العارضة في الصورة موجودة في الهواء الطلق. فهي ترتدي معطفًا شتويًا وقفازات جلدية، وتُصوَّر على أنها أنيقة وإجتماعية، حيث ترتدي قبعة بيريه حمراء على الطراز الفرنسي وتحمل خبز الباغيت في حقيبة البقالة.
علاوة على ذلك، تتميز العارضة بشعر قصير، وحواجب رفيعة، وأحمر شفاه أحمر، وبشرة فاتحة، تمامًا كما في الأغلفة السابقة.

كانون الأول 1950:

اخيرًا، الإصدار الخاص بعيد الميلاد. يحمل العنوان الرئيسي للمجلة الكلمات: “عيد الميلاد – ملابس الحفلات – زينة الحفلات”.
يُظهر الغلاف بشكل أساسي صورة قريبة لما يبدو أنه أم وطفلها. كلاهما يتميّز ببشرة بيضاء فاتحة. يظهر وجه الأم مزيّنًا بأحمر الشفاه وحواجب رفيعة. لا يمكننا تحديد أي تفاصيل عن الملابس أو شكل الجسم من خلال هذا الغلاف.
تظهر المرأة في الصورة وهي تبتسم وعلى وجهها علامات الرضى. تبدو الصورة وكأنها تركز على مفهوم الأسرة والأمومة. وبما أنه إصدار خاص بعيد الميلاد، فإن القرب من العائلة يُنظر إليه على أنه أولوية، ما يفسر اختيار غلاف يقدّم صورة المرأة في دور الأم المتصلة بشكل مباشر مع طفلها.