الموسيقى الصامتة: وحده زياد الرحباني قال لي أنت ترى الموسيقى

كلما كنت أذكر عبارة “الموسيقى الصامتة”، متحدّثًا عن مراجعي التراثية التي أعتبرها من مكونات التراث الصامت في منطقتنا – مثلها مثل الهندسة والزخرفة – كانت العبارة تثير الاستغراب. وكنت، في دراستي الجامعية في باريس، دأبتُ على ربط فن الإيماء بفكر الفن الصامت وسماته عندنا، المرتكِز على عناصر ثلاثة: الخط والدائرة والمربع. وهي الأشكال التي تتكرر بها الوحدة الشكلية ويتكوّن منها كل مرئي في العمارة والزخرفة، كما في أماكن العبادة، ومنها خصوصًا تلك “المقرنَصات” (المتدلية) فوق مداخل بعض الجوامع. ثم أربط فكرة وحدة التشكيلات المتكررة وتطورها شكلاً وحركةً وإيقاعًا بتشكيل الموسيقى الصامتة واعتمادها الوحدة المتكررة ثم النغم ووصولا إلى المعزوفة.
وحده زياد الرحباني نظر إلي بتعجب وابتسامة قبول، عندما قلت له أني أستلهم من تركيبه للموسيقى الصامتة التي يؤلّفها، شكلَ بناء وموضوع مشهد إيمائي يعتمد على الشكل والحركة والإيقاع ويتبع تركيب المعزوفة العربية، من “الزَنّ” إلى التقسيم إلى النغم ووصولاً إلى المعزوفة ذات الحالة الدرامية. حتى أني أتبع هذا المذهب وأبني مشهدًا صامتًا كما الموسيقى الصامتة بـ “الزَنّ” على حركة واحدة وتكرارها إلى الجملة الحركية فوصولاً إلى الحالة الدرامية. استمع زياد إلي بهدوء وقال: “أنت لا تسمع الموسيقى أنت تراها.” ثم اتفقنا في ذلك اللقاء على أن الصمت الذي هو جزء أساسي في كتابة النغم الموسيقي هو أيضاً جزء أساسي في بناء المشهد الإيمائي.
كل هذا كان نقاشًا فكريًا وعلميًا استغرق لقاءات عدّة في بداية ثمانينات القرن العشرين قبيل الإجتياح الإسرائيلي لبيروت وأثناءه وبعده بقليل.

في العام 1986، إثر سماعي موسيقى “هدوء نسبي” لزياد الرحباني وما تحمله من حوارات بين آلات موسيقية مختلفة، كالبيانو والبزق والكمان… مع ذلك التصاعد الإيقاعي ثم خفوته، جرّتني رؤيتي إلى حالة ليس فيها هدوء. فاتصلت بزياد وسألته أين الهدوء في “هدوء نسبي” وكل المقطوعة دراما صاخبة. فأجابني: “لم تقرأ كلمة “نسبي” لأنك ترى قبل أن تسمع. وقبل أن تقراً، ماذا رأيت؟” أجبته ضاحكًا: “رأيت المشهد مركّبًا من حوار بين الموسيقى الصامتة والحركة الصامتة تنشأ منه حالة درامية، مثلما يُنشئ الحوار الصامت بين الهواء والشجر مشاهدَ درامية مؤثرة.” فقال زياد: “الهدوء نسبي والنسبية تختلف من شخص إلى شخص ومن حالة إلى حالة ومن بيئة إلى أخرى. إلى أين تريد الذهاب؟.. (على طريقته “وينك رايح إنت؟”).
فذهبتُ إلى حيث أريد وطلبت منه أن أستخدم هذه المقطوعة الصامتة لأبني بها مشهدًا مسرحيًا يروي قصة لها بداية ولها نهاية بحركات صامتة. فوافق وكان مشهد “حلم المعتقل” الذي أدته عايدة صبرا في العرض الإيمائي “إيماء 86”. وعملتُ فيه على أن يرتكز التأليف الحركي على وحدة حركية تتكرر، مستوحاة من كوريغرافيا (أي حركات وخطوات) لاعبي رقصة السيف والترس التراثية.
بُني المشهد تبعًا للآلات المستخدمة وانسجامًا مع الإيقاع: في البيانو، رأيتُ المعتقَل يحلم وينطلق مع آلات الكمان ويحاول كسر طوق السجّان مزهوًا بفروسيته، ثم يكتشف أن السجان أقوى منه فيستكين مع الناي ويعود إلى الحلم بالحرية.
عند تقديم هذا المشهد استغرق تصفيق الحضور مدة أطول من مدة المشهد. لم يشاهده زياد لكنه سألني أثناء لقاء لاحق: “ماذا فعلت بالهدوء النسبي؟” قلت: “لا هدوء نسبي ولا موسيقى صامتة.”
قد يبدو أن ما أورده من حوارات ونقاشات مع زياد وكأنه جلسة ضمن إطار أكاديمي. لكنها كانت، في الواقع، سلسلة جلسات جرت على فترات متقطعة ولقاءات متفرقة واستمرت إلى حين. ثم في 1988، بدأتُ التحضير لعرض إيمائي جديد عنوانه “إيماء 88″، وكان الحافز الرئيس لتأليفه هو ربط النقاشات التي تجلت في مشهد “حلم المعتقل” من عرض “إيماء 86” واستخلاص النتائج، بالإضافة إلى موضوعه الجدلي حول علاقة ناس المراتب العليا بقضايا ناس الأرض وعمّالها.
وصممت في هذا العرض على أن أقدم تلك الجدلية كصراع بين الصمت والصمت أي بين الحركة الصامتة والموسيقى الصامتة، واضعًا ثقتي في قدرة الجمهور على المتابعة والاستنتاج، من دون الحاجة إلى كلام أو شرح. فالإنسان الذي يرى غيومًا سوداء في السماء فيحمل مظلة تقيه من المطر، قادرٌ على التفكير النقدي الإبتكاري مهما صعبت المسألة التي تُطرح أمامه.
وبناء على ما تقدم، قررت التقاء زياد للعمل معًا، كل ضمن نطاقه، من أجل تأليف النص الصامت موسيقيًا وإيمائيًا. اخترتُ من أعماله معزوفة “المعمل” لأبني عليها المشهد الختامي الذي سيتكون من تقاسيم حركية تؤديها مجموعة الممثلين، على أن ترافق إيقاع المعزوفة وتنتهي بجملة حركية واحدة موحدة. شرحتُ له مضمون المشهد قبل أن نتباحث حول اختيار مقاطع جاهزة مسجّلة أو تصميم ما يلزم كي تكتمل الصورة مع المعنى لدى الجمهور. نظر إلي زياد وقد استوعب المقصد قائلاً بمحبة: “كلها معاني وعبر… بس بدك مين يفهم.”
تقاسيم حركية على إيقاع معزوفة “المعمل”
في البدء، طلبتُ من المؤدين أن يختار كل منهم جملة حركية ذات معنى خاصة به، ولا يتعدى تعداد حركاتها ثمانية أوقات موسيقية (أو نبضات). ثانيًا، عملنا على مجاراة توقيت أداء الحركة تبعاً لتعداد الأوقات الزمنية الموسيقية، بحيث يبدأون معاً وينتهون من أداء جملهم الحركية معًا، تمامًا كما لو أنهم فرقة عزف موسيقي. ثالثًا، عملنا على مواكبة إيقاع أداء الجمل الحركية الصامتة مع إيقاع الموسيقى الصامتة.
ثم جاء وقت التحوّل والتغيير. طلبتُ من كل مؤدٍ صاحب جملة، أن يحول حركته عند بلوغه نبضة معيّنة (النبضة الرابعة مثلاً) من الثماني نبضات، أن يحوّلها إلى حركة مختلفة ويلتزم بها زملاؤه الآخرون. وهكذا دواليك، حتى استطاعوا أخيرًا، مع تسلسل التحوّلات، استطاعوا تغيير الجمل الحركية الابتدائية تباعًا… إلى جملة جديدة مختلفة وموحّدة يؤدونها سويّة، في لحظة التصاعد الموسيقي الأخير في معزوفة “المعمل”، وهو ما شكّل الحالة الدرامية المنشودة للمشهد.


الجدلية بين الموسيقى والشكل الصامت المتحرك
جلسنا في استوديو زياد الرحباني الصغير في مسكنه، نخطط لمشهد آخر يعتمِد على حوار الصامتَينْ، الموسيقى والحركة. وهذه المرة، عملتُ على اختزال حضور المؤدين بأيديهم فقط (الكف والأصابع) من خلال عزلها عن الجسد، بينما تتحرّك فوق حافة ستارة سوداء. دار المشهد حول لقاء ترفيهي بين مؤتَمِرِين… وفجأة، ترفع الأيدي أعلامًا بيضاء مستسلمةً إمام جزمة عسكرية تقتحم اللقاء.
وحين رأى زياد أن مادته الموسيقية ستكون الأولى في بناء المشهد، اختار بدايةً لحن أغنية “ده فيلم أميركي طويل” من دون الكلام كحوار أول. وكان الرد الصامت بحركة من الأيدي تشير إلى حالة استحسان وتقبّل. ومن على مقعده أمام آلة الأورغ، داس زياد على مفتاح الصوت العريض بقوة وقال: “هنا تدخل الجزمة، فما هو رد فعل اليدين؟” أجبت: “الخوف”. قال: “لا… اسمع هذه.” وكانت موسيقى شبه عسكرية راقصة. ثم أشار: “دورك الآن.” فقلت: “تتمايل الأيدي راقصة أمام الجزمة.” وفجأة، عاد إلى الصوت العريض وقال: “والآن؟” قلت: “تتقدم الأيدي نحو الجزمة صاغرة وهنا تخرج الأعلام البيضاء.” فأضاف: “… ونعود إلى الموسيقى العسكرية الراقصة.” وأضفت بدوري: “وترقص الجزمة والأيدي فرحةً بانتصارها على الجزمة.”
قدم هذا العرض في بيروت وفي مهرجان دمشق الدولي للمسرح سنة 1988، وأدى المطلوب منه: لا صمتَ شاملًا وكليًا في الحياة، ولا هدوء… كلٌّ في حركة متواصلة.

