من كفركلا لِبيروت: شهادة دون فلتر

الصور لـ حسين شعبان

قضى إبن كفركلا خضر فقيه شهيدًا في 29 أيار الماضي. والمسعف الشهيد، وبحسب ما يرويه أهل البلدة، دخل القرية مبكرًا، ألقى التحية على العسكر اللبنانيّ، وأكمل طريقه نحو منزله. دوّى صوت الرصاص، ومرّت ساعات، يبحث فيها أحباؤه وأهله عنه.
توجّهوا إلى بيته، ودخلوه، فوجدوه شهيدًا، مصابًا بعدة رصاصات إسرائيلية.
شيّعوه يوم السبت 31 أيار، لكن روايتهم لم تُسجَّل في أي بيان رسميّ. نعته قريته، وأهله، وجمعية الرسالة للإسعاف الصحيّ حيث كان يعمل متطوّعًا. بكته النبطية لمّا انطلق موكب التشييع منها، وبكته كفركلا، لمّا جاءه أهلها مودّعين جثمانه، ومؤدّين صلاة الميّت على الشاب الصغير. ومن ناحية السلطة، بمؤسّساتها وأشخاصها، لم ينعاه أحد بعد.

غضب الناس، وصرختهم، حضرا في وقفة احتجاجيّة ساعة إعلان شهادة خضر.
وكان يتصدّر المتظاهرين رجل متوسّط العمر، عُدتُ والتقيتُه يوم السبت، بعد التشييع، في مكان مكشوف، معلّق أمانه على قرار الاحتلال، تحرسه الذاكرة أكثر مما تحرسه الجدران. هناك، حيث ما تبقّى من البلدة، يجتمع علي حلاوي يوميًّا مع شباب الضيعة وأهلها، يستقبلون العائدين إلى ركامهم، أو يلوّحون للمغادرين بنظرات أثقلها مرّ التهجير.
هي كفركلا اليوم، قرية بلا سقف، لا تزال تحت القصف، لكنها لم تفرّط بأهلها. يظل علي ورفاقه في المكان، يودّعون الداخلين والخارجين، كلّ يوم. نواطير قريةٍ مهدّمة، لا يملكون فيها إلا عيونهم وصوتهم.
حين خرج بعض أبناء القرية في وقفة احتجاجيّة تندّد بالانتهاكات الإسرائيليّة ضدّهم وصمت الدولة على ما يصيبهم، جاءهم قائد اللواء السابع في الجيش، العميد طوني فارس، واجتمع بهم. وعدهم بمواكبة عسكرية لمن يريد زيارة منزله المهدم. هذا كل ما نالوه. وعود يقولون إنهم سبق وتلقّوا الأهم منها، لكنها كانت تتراكم فوق خيبات سابقة، ولا تُبدّد سؤالهم البسيط: لماذا نحتاج إلى إذنٍ كي نعود إلى بيوتنا؟
في كفركلا، لا أحد يطلب امتيازًا. الناس يريدون أن يدخلوا أرضهم، وأن يخرجوا منها أحياء. أن يعودوا إلى منازلهم، وأن يبنوا ما دمّرته آلة النسف الإسرائيليّة عن سابق تصوّر وتصميم.
اليوم، يلوّح الأهالي بالتصعيد، وبتسكير الطرقات الحيوية في المنطقة، إن استمرّ ما يعتبرونه تهميشًا وتجاهلًا رسميًّا لما يتعرّضون له.
وفيما يلي، كلمات علي حلاوي، في قالب نثريّ:
أولًا: نعيش تحت احتلال
في كفركلا، لا شيء يبقى على حاله سوى الخراب. بلدتنا المنكوبة لم تعد بلدة، بل أطلال معلّقة بين السماء والسلك الشائك. لا نملك فيها إلا وقفة عزّ نقتنصها كل حين، نصعد فيها إلى ما تبقّى من بيوتنا، نطيل النظر في الندبة، ثم نلملم أنفسنا ونرحل.
الانتهاكات لا تنقطع. ليست نوبات غضب، بل نظام حياة. إن لم يُرِد العدو قتلك، حطّم سيارتك. وإن لم يطل جسدك، طالتك رسالته: “أراك، وأستطيع هدر دمك متى أشاء”. رجل واحد أراد أن ينتشل بعض الحديد من ركام بيته، لاحقته المسيّرة، قصفت سيّارته بقنبلة، دمّرتها، وتركته درسًا معلّقًا في الهواء.
الدرون فوقك. العدو يراك. يعرفك. يعلم أنك لا تحمل شيئًا. فلماذا يرمي قنبلة؟ لماذا يصيب؟ لماذا يكسر؟ لماذا، إن لم يكن القتل عنده عادة، وإزهاق الدم عنده مثل شربة ماء.
نحن ملتزمون بقرار وقف إطلاق النار. لا سلاح في يدنا، لكن هذا عدوّ لا يطلب ذريعة. يكفيه أنك موجود. الدم عنده رخيص، وقد اعتاد أن يُريقه كما يُريق الماء.
أنا لا أقول إن لم نلتزم، لا يقصف. فليرد، “ينفزر” يردّ كما يريد، إن كنّا نحن البادئين. لكننا نأتي عزّل، نجرّ أقدامنا نحو بيوتنا المهدّمة، نبحث عن فرشة أو لوح حديد، أو نأتي لنتفس هواء قريتنا لا أكثر، فيستهدفنا.
خرجنا يوم الخميس بوقفة احتجاجية. لم نحمل إلا صراخنا. تظاهرنا رفضًا لأن تتحوّل العودة إلى البيت إلى مذبح. قلنا كفى، ونعنيها. وإن لم تُسمَع الكلمة، فسيُسمَع الغضب. نريد العودة الكاملة. بلا شروط. بلا قنابل فوق رؤوسنا.
هل هذا ما يُسمّى قرارًا؟ أن نُقتَل في بيوتنا؟ هذا ليس وقفًا لإطلاق النار. هذه حرب. وهذه الحرب، نعيشها يومًا بيوم، لأننا ببساطة… تحت احتلال.

ثانيًا: والدولة لا نراها تتحرّك
لم نرَ حكومةً تتحرّك. لا على جريح يُصارع ألمه، ولا على شهيدٍ سُفِك دمه، ولا على سيارةٍ تحوّلت إلى فتات، ولا على بيتٍ سُوِّي بالأرض.
ولا يوم سمعنا صوت دولةٍ تُدين، ولا رئيسٍ يجرؤ على وصف ما يجري علينا من إرهاب، رغم أنه يُمارس علينا، كل يوم، جهارًا. لا أحد تفضّل بكلمة، ولا حتى همسة خرجت من أفواههم البكماء.
دخلنا إلى كفركلا بقوّة الناس، لا بقرار الدولة، وبأول وقفةٍ احتجاجية، سقط منا أربعة شهداء وخمسٌ وعشرون إصابة، لا لأننا اعتدينا، بل لأننا طالبنا بحقّنا في الدخول إلى بيوتنا. لأنّ الإسرائيلي لا يريد لابن كفركلا أن يكون في كفركلا.
وأنت، أيها المسؤول، جالس على كرسيّك، تعدّ أنفاس العدو وتنتظر ما يرضى به الخارج؟ بلدك تحتاجك، وأنت غائب؟ أقولها كما تُقال الكلمة حين تبلغ الحلقوم: عيب عليك.

الدولة التي تنسّق في كل شاردة وواردة تحرّكاتها من خلال اللجان وتحت الطاولات وفوقها، أتعجز عن التنسيق لدرء العدوان عن مواطنيها؟ أتعجز عن أن تقول للمحتل: ابتعد عنّا، فقط اتركونا نعيش؟
نحن اليوم مهمّشون. من كنتَ، تُهمّش: إن كنتَ من حزب، فموتك لا يعني أحدًا، وإن كنتَ من حركة، فيسري عليك ما يسري على غيرك، وإن كنتَ مواطنًا عاديًّا، فأنت أيضًا غير محسوب.
وأقولها للرئيس وللحكومة، بلا تلطيف ولا مجاملة: إن لم أكن محسوبًا عليك كلبناني، فقد أسقطتني من حساباتك. بل استثنيتني من الوطن.

ثالثًا: نحن شعب
لا نتكلّم باسم حزب، ولا حركة، ولا بيئة محدّدة. وكوني شيعيًّا لا يعني أنني حزب أو حركة. نحن مواطنون، من تراب هذا الوطن، ومن حقّنا أن نُعامل على هذا الأساس. فإمّا أن تعاملونا كمواطنين، أو نعاملكم كما يُعامَل المهمَّش حين يُنبَذ من الجميع.
إذا همّشتمونا مرّة، فلدينا ألف طريق لنضعكم خارج الصورة. نحن شعب. نحن قوّة.

رابعًا: الغلاء والتهجير والخذلان
كنت أستأجر منزلًا بخمسين دولارًا في كفركلا. اليوم، أستأجره بثلاثمئة في النبطية. كنت أعمل في مشروع يُؤمّن لي قوتي بكرامة قبل العدوان، فتوقّفت المشاريع، وضُربت مصادر الرزق، واحدًا تلو الآخر.
تسألني عن التعويض من الدولة؟ لا تعويض، ولا حتى كرتونة إعاشة تُوزَّعها على المنكوبين. الناس ما زالت مهجّرة، والبيوت، إن لم تُسوَّ بالأرض، احترقت حتى تضعضعت. وإن أردتَ أن تصلح أضرارًا، لا أحد يقدّم، ولا أحد قادر أن يقدّم.
نعيش بين نارين: نار العودة إلى القتل، ونار النفي والهجر. ومع ذلك، نأتي يوميًا إلى كفركلا، نبقى هنا، لا نرحل.

خامسًا: “ما منحطها واطية“
لا تظنّوا أن الفقر، أو فقدان البيت، يعني الضعف. نأكل العشب البري إن اضطررنا، لكن كرامتنا لا نُنزلها لأحد، لا لكم ولا لغيركم، “وما منحطها واطية”.
نحن هنا، كل يوم، رغم الموت الذي يمرّ فوق رؤوسنا، رغم الخوف، رغم الدمار. لا حياة، لا بنية، لا دولة، لكننا هنا.
نقوم بجولات تفقديّة، نحرس ما بقي من أرزاق الناس، لا نسمح لأحد أن يمدّ يده على مسمار ليس له.
وكلّنا يدٌ واحدة، حتى من لا يملك قرشًا في جيبه.

سادسًا: الرسالة ما قبل الأخيرة
انتخبنا بلدية؟ حسنًا. فأين الدولة كي تقف معها؟ إن كانت مشكلتكم مع المقاومة، فتجاوزوها وساعدوا البلدية.
فالبلدية ليست لجهة، بل للناس.
نحن موجوعون، والدولة صامتة، والحكومة نائمة عنا، كأن ما يجري هنا لا يعنيها. لم يأتِ أحد ليسأل: “ما الذي يحدث؟ ماذا تحتاجون؟ كيف تصمدون؟” ولا حتى لفتة. ولا حتى كلمة.
يا عيب الشوم. يا عيب الشوم عليكم.

سابعًا: ليست كل مقاومة بندقية، ولا كل سكوت رضى
قلتم: “المقاومة وراء الليطاني”. حسنًا. حضرتك جئت يوم التشييع، وتعال في الأيام العادية، لا مظاهر مسلّحة، لا سلاح، لا إنشاءات. لماذا؟ لأننا ملتزمون. نحترم قرار وقف إطلاق النار، ونطبّقه على أنفسنا بحذافيره. حتى “بارودة أم حبّة” لا تُرفع، حتى صيد العصافير توقّف.
مقاومة؟ نحن كلّنا مقاومة. انتبه، فكلّنا مقاومة. لا أحد يزايد على أهل الأرض في صبرهم أو خيارهم. كلّ إنسان وُلد من رحم أمّه، وُلد وفيه بذرة مقاومة. لكننا نُفرّق بين حقنا بالعودة وقرار سحب السلاح جنوب الليطاني، بين شعبٍ يحاول أن يعيش بأمان، ودولةٍ تصمت بعارٍ على من يُقتل في منزله.
وإن استمرّ هذا الصمت، فمن يمنع الانفجار؟ ماذا لو اجتمع مئة شاب من البلدة، وانبرى منهم أربعة أو خمسة لا يبالون بشيء، مستغنين عن أرواحهم، فاشتروا سلاحًا، وقرّروا أن يفعلوا ما لم يُفعل؟ ألن ينهار كل شيء فوق رأسكم، يا حكومة؟ ألن يفلت الوضع؟ فمن يكون المسؤول حينها؟

