صحن مسبّحة

لم أجد في هولندا كزبرة تشبه كزبرة بلدي سوريا. تشبهها شكلاً؟ نعم. نكهة؟ إطلاقًا. الحمُّص متوفّر؟ نعم، ولكن بأشكال غير مألوفة: مسبّحة بالأفوكادو، فتوش بالكينوا، ملوخية ببذور الشيا. كأنّ هذه الأطباق التقليدية قد تعرّضت لورشة استنساخ جماعية لهندسة نكهة هجينة وذائقة مشوّهة، لكنها “عضويّة”، “فيغان”، وتُباع بثلاثة أضعاف السعر. أفكّر أحيانًا: ماذا لو وُلدتُ هنا؟ هل كنت سأظنّ أن الكزبرة التي تشبه البقدونس هي “كزبرة أصيلة”؟ هل تصبح المسبحة بالمانغا المذاق الذي يردّني إلى طفولتي؟ هل كنّا سنعرِف “أصل الأشياء” من حولنا؟

نختبر الهويات الحديثة من خلال الانتماء إلى اللا شيء. نتحرّك ضمن أطُر مرنة قابلة للضغط والطيّ والاستعمال المتعدد. عالم الاجتماع ستيوارت هول كان يعرف ذلك. كتب مبكرًا عن “الذات المتفتّتة” والهوية  التي لم تعد تنمو من جذور بل تُركّب مثل صحن مسبّحة في مطبخ عامّ: الوصفة مكتوبة، النسب مضبوطة، لكن الطَعم… لا أحد يألفه. أي أن الهوية أصبحت متحرّكة، يُعاد تشكيلها باستمرار في المصنع، في السوق، على شبكات التواصل، في صالات انتظار قرار اللجوء، وفي حملات التضامن. الهويّة المتجذّرة؟ وَهم؟ ما تؤمن به ليس مهمًّا. الأهم هو أن تعلن خيارك عند التقاطع الأخير قبل الكاميرا.

أزمة الهوية أو اللا إنتماء ليست وليدة جهل بهويتنا، بل سِمة عصر أصبحنا نختار فيه من نكون بناءً على السياق، اللحظة، المكان، والجمهور المتلقّي. الهوية المركّبة هي قميص “فلسطيني” مع حقيبة جلد هولندية، بوستات عن الاستعمار باللغة الانكليزية، نقد الاستعمار في مؤسسة تموّلها الدولة التي استعمرت نصف الكوكب. 

إنتبه… أمامك كوع

من هذا المنظار، ليس “المكوّع” خائنًا بالضرورة. بل هو انعكاسٌ لزمنه: يعيش في المؤقّت، يريد أن يقول شيئًا لكنه لا يريد أن يُحدِث أضرارًا جانبية. يُتَكتك، من “تكتيك”، يريد أن يُقاوِم ولكن ضمن حيّزٍ يضمن إجماعًا وعودة سالمة من الجبهة. تخيّل عنوان بيانه السياسي: “مسبّحة بالأفوكادو”. المؤسسة الثقافية تتّبِع نفس النهج. تموّل “مسرحية عن الفقد” شرطَ عدم ذكر أن سبب الفقد – أي القتل – مستمرّ. وإذا لم يكوّع الفنان بناءً على رغباتها، فسوف تكوّع المؤسسة عنه وتموّل فنانًا آخر.

المكوّع غالبًا ما يتحدّر من سلالة أصلٍ مهزوم. استنساخ متقَن، ولكن غير معلَن، للغة الحركات السياسية المهزومة. جاء من “شتات النخب”، عاش في “دياسبورا المعنى”، سخر من “سذاجة الثوار الأوائل”، ثم تسلّل عائدًا إلى دفء الخطاب القديم المعلّب بشكل جديد. المكوّع لا يعرف الفرق بين كزبرة وبقدونس، يقطُف ويُتابع سيره. قال مرّة: “نحن مع الثورة”، ثم خطا خطوة إلى الوراء وقال: “الثورة مؤامرة”، ثم في وقتٍ مستقطع تمهّل قليلًا وهَمَسَ: “نحتاج إلى إعادة قراءة جذورنا”، ولما وقف جولانيٌّ أمام الكاميرا، أنيقًا، يشبههُ، قال: “الزلمي تغيّر”.

(“العمل السياسي في عصر إعادة إنتاجه ميكانيكيًّا”)

كتب والتر بنيامين مبكرًا عن فقدان “الهالة” في الفن المعاد إنتاجه. لكن ما لم يقله هو أن النسخة قد تتحوّل إلى الأصل عندما يُمنع الوصول إلى الأصل الحقيقي. فعندما تختفي الكزبرة البلدية، تصبح الكزبرة الشبيهة هي الواقع الوحيد المتاح ويصطفّ الناس لمدح ما ظنّوا أنه هالة: “لها نكهة خاصة”. وبالمثل، حين يُمنع النَقد، يصبح الصوت الوحيد المتاح هو البلاغة المُعقّمة التي تملأ الفضاء العام وتُغرق الأسواق.

فهل نستيقظ غدًا لنجد أن التطبيع أصبح صحن “المسبّحة” الجديد في السوق؟ هل سيُروَّج له لأنه “الخيار الوحيد المتوفّر” على الـ menu؟ أم لأنه يحمل وعودًا برّاقة بالأمان، والاستقرار، والازدهار، والبحبوحة؟ أم ببساطة لأنهم، في الأصل، أرادوا التطبيع طوال الوقت؟

يقول بنيامين إن الفن، عندما فقدَ هالته وسط وابِلِ النسخ، وقعَ في قبضة الفاشية التي تستغلّه لصياغة جماليات جذابة بهدف كسب الولاء الجماهيري. والردّ على “جماليات السياسة” هذه، بحسب بنيامين، هو في تسييس الفن. وفي سياقاتنا الراهنة، يعني ذلك تقديم طبقٍ يتفوّق على هالة “المسبّحة الأصلية”، ويفضح تكويعة “الفتوش بالكينوا”.