أنا من هنا

ها قد أتى الليل وهدأَت الأصوات، لا ضوضاء في الخارج، يُغلق الناس نوافذهم في الليل، أما أنا فأقوم بفتحها، يُبهرني هذا التعاقب الدائم بين الليل والنهار، هذه الأضداد المُجتمعة في عجلةٍ زمنيةٍ واحدة، الشروق والغروب، الضجيج والسكون، النور والظلام، أشاهد الليل بعمق، بيقظةٍ أكبر، بهدوءٍ أكثر، الليل خصب! هو الوقت المُستقطع من الزمن الذي يعود به الإنسان لذاته التي تماهت مع أشغال الحياة، الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، فكيف لنا أن لا يُبهرنا الليل وفيه يُلبى الدعاء والنداء!

ولكن هل كلُّ ليلٍ جميل وهادئ!

هل جميعنا نرى النجوم ليلًا، نجد السكينة ليلًا، نحتضن احبائنا ليلًا لننام بعمق!

مذ بدأت الحرب على غزة وأنا في كل مرةٍّ افتح بها النافذة أرى على امتداد النظر دمارًا، مبانٍ مُهدمة، رمادًا، أشم رائحة الموت، الاجساد المُحترقة، لا أرى من الأحمر إلا الدم، لستُ من هناك، انا من هنا ولكنني هناك، أو كما قال محمود درويش

“أنا من هناك
أنا من هنا
ولستُ هناك
ولستُ هنا
لي اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لغتان نسيتُ بأيهما كنتُ أحلم”

مذ بدأت الحرب وأنا أحيا وبداخلي شعور بالذنب، ذنب الناجي، “الناجي” هذا ما أعتقد أو ما كنت أعتقد، شعور سحيق ومُمتد إلى الأمد البعيد، حاولت بشتى الطرق أن أهرب منه، أن أغلق كل النوافذ، أن أحاصره، ولكن أنا من هناك، من رحم تلك الحكاية حتى وإن حاولت اقصاء نفسي عنها.

قبل فترة وجيزة، بدأ يشُدني خطاب “الارض الجديدة”، بحثتُ عنه وانصبّ تركيزي عليه، يقولون إن الإنسان يمرّ بصحوةٍ روحية، ولادة جديدة لبُعدٍ آخر من خلاله تفهم رسالتك على الأرض ودورك بتطور البشرية روحانيًا. في البدء، اختلطت عليّ المفاهيم والسياقات، لم أفهم هل هي دعوة حقًا لعصرٍ جديد فيه نور أكثر وظلام أقل، أم هي فكرة من الخارج جميلة ولكن جوهرها قبيح! هل الله ملك الإنسان وهل لأنه كوجود غير ملموس فهو فضفاض. جميعنا نملك الحق في التصرف به وفق السياقات التي تُناسبنا. والشر إذن ما هو، ما تعريفه، ماهيته، مصدره؟!

هل نحن ما قيلَ لنا فقط، هل صورتنا الذاتية مجرد انعكاسات من حولنا علينا؟! والحق والجوهر والأصل إذن ما هم؟!

ووجدت نفسي حينها اتذكّر أبيات شعر لأحمد بخيت يقول فيها:

“نجد الإجابة حين ننسى الأسئلة
لا تسألِ المذهول عمّا أذهله
بالأمس، مرّ على المدينة، لم يجد وجهًا بلا حزن لكي يتأمله
سألتهُ سيدةٌ – بآخر دمعةٍ – من أين يأتي الحزن حتى أقتله؟
من عاش يحتمل الحياة كمحنةٍ، أبّت الحياة عليه أن تتحمله
نحتاج عمرًا كي نربي ثائرًا، ودقيقةٌ تكفي الطغاة لمقصلة
لا شيء يزعجني، الحياة جميلةٌ، والناس هادئة هدوءَ القنبلة
حريتي، هي أن أحبكِ غاضبًا ويدي مكبَّلة كرسمة حنظلة”

حرائق في الغابات، دخان كثيف يتصاعد في السماء، مروحيات إطفاء، لهب يمتد ويمتد، جهنّم على الأرض!

هل هنالك من أشعل النيران، أم أنها قد جنت على نفسها براقش!

هل يُصبح الزيف حقيقة؟

أم أن السؤال متى يُصبح الزيف حقيقة؟

والحقيقة هل ستُفصح عن نفسها يومًا، هل ستظهر!

أم أنها تآكلت بفعل الزمن، هُمشت، غابت، شوهت! 

كيف يُصبح الزيف حقيقة؟

نحتاج إلى الفكرة أولًا، إلى أرض تحتضن الرؤيا الجديدة، ها قد وجدتها، امحِها عن بكرة أبيها، لا تُبقِ شيئًا من معالمها، ذوّب أصلها وابنِ زيفك ورؤيتك فوق الخراب الذي صنعته

كيف أصنع تابعين؟ 

قم بهندسة المكان من جديد، احضر ما هو مؤتلف، من دين وإله ونبي وأشجار ولغة وتاريخ.

متى يصبح الزيف حقيقة؟

اسرق التاريخ والتراث والهوية، كبّل الأصوات المُعارضة بشتى الطرق، عاقبهم جماعةً لا فُرادَى، اخفِ كل ما دُمر من وجودٍ سابق، ازرع افكارًا جديدة، شوّه وعيهم، افصلهم عن جذورهم، انقلهم من العام الى الخاص، امسح وجودهم.

متى يُصبح الزيف حقيقة!

حرائق في الغابات، دخان كثيف يتصاعد في السماء، مروحيات إطفاء، لهب يمتد ويمتد، جهنّم على الأرض!

هل هنالك من أشعل النيران، أم أنها قد جنت على نفسها براقش!

غاباتٌ كثيفة، جميلةٌ من بعيد، أشجار سرو وصنوبر تملأ المكان، ولكنها ليست صديقة الأرض التي سُقيت ورُويت لسنين طوال بدماء أصحابها الحقيقيين، أشجار تدفن تحتها هوية أصيلة، لتصنع هوية زائفة. 

ها قد أتى الليل، سماؤه غير صافية، موت كثير، موتٌ موجع وحزين، سأغلق النافذة كما يفعل الجميع، فأنا من هنا، من العمق، من المركز، ولكن… 

“لو بِيَدي
لو أنّي أقدرُ أن أقلِبَهُ هذا الكوكب
أن أُفرغَهُ من كلّ شُرورِ الأرض
أن أقتلعَ جذورَ البُغض
لو أنّي أقدرُ، لو بِيَدي
أن أقصي قابيلَ الثعلب
أقصيهِ إلى أبعدِ كوكب”
– فدوى طوقان 

القدس-فلسطين