إلى المنفى

يظهر المنفى في المخيلة الأفريقية كحافة صخرية تطلّ على المجهول. لا أحد يقفز بملء إرادته، لكن القفز يظلّ الفعل الوحيد المتاح في مواجهة الجوع واللاعدالة، القفز من ضيق الحدود إلى وسع البحر. هكذا يقفز الأفارقة كل يوم من قراهم إلى الشاطئ، ومن الشاطئ إلى قوارب مطاطية، ومن القوارب إلى الأمواج التي لا تعرفهم ولا تشاركهم أي ودّ، حتى يسقط بعضهم في قاع المحيط، ويصل آخرون إلى ضفافٍ لا تشبه أحلامهم. هناك، تبدأ قفزة أخرى: من الاسم إلى الرقم، من الذاكرة إلى الصمت. يتحوّل المنفى من حافة صخرية، إلى مكان، إلى سقوط مستمرّ في الفراغ، ويتحوّل كلّ منفيّ إلى عدّاء قفز يتحرّك خط النهاية أمامه باستمرار. ألهذا السبب لا ينام المهاجرون بسهولة؟ هل لأنهم لا يعرفون إن كانوا قد عبروا أم ما زالوا في منتصف القفزة؟

يُقال لنا غالبًا: “اقفزوا إلى الأمام”. وكأن القفزة خلاص، وكأن المستقبل لا يُستحق إلا بالمجازفة الكاملة. لكن في أفريقيا، القفزة كثيرًا ما تكون سقوطًا جماعيًا، حين تصبح القارة نفسها في حالة منفى مفتوح: منفى الذاكرة، ومنفى العدالة، ومنفى المستقبل الذي يُسرق كل يوم في صفقات المناجم والتعدين والحروب بالوكالة.

والقفزة إلى المنفى هي لحظة انقطاع، لكنها أيضًا فعل تحدٍّ ضدّ الحتمي. فكلّ من قفز نجاةً، أعلن بطريقةٍ ما أنه يرفض أن يموت في صمت، أنه يريد فرصة أخرى، ولو كانت من عدَم. إنها الذاكرة التي يظلّ يحملها المنفي في جسده، جنينًا وُلد من الخوف والرجاء معًا. في المنفى، يرى المنفيّ وجهه القديم يتبدّد شيئًا فشيئًا، لكنه لا يختفي. فكل خطوة في أرضٍ جديدة هي تفاوض بين ما كان وما بعد. هناك، في المسافة بين ضجيج الطائرات وصمت المخيمات، يتكوّن وعيٌ جديد بالوطن، لا كجغرافيا، بل كحلمٍ مشترك عابر للحدود.

ولعلّ المنفى، بكلّ قسوته، يمنح الأفارقة نوعًا من البصيرة الموجعة: أن الخلاص لا يُستورد، وأن الحدود ليست سوى أوهامٍ سياسية تحرس البؤس باسم السيادة. فحين يقف المنفيّ على أرضٍ بعيدة ويرى كيف يعاد صياغة عالمه من دون أن يُسأل عن رأيه، يدرِك أن القفزة لم تكن مجرّد هروب من موت صغير، بل مواجهة مع نظام عالميّ بنى امبراطوريته فوق أجساد من سقطوا.

رغم كل ذلك، يشعّ في قلوب المنفيّين ضوءٌ صغير لا يُطفأ. ضوء يلمع في قصص الأسلاف التي تُروى للأبناء، في الأغاني التي تُغنّى في المساءات الطويلة، في العيون التي لا تنسى شكل النيل ولا رائحة المطر. ضوء يجعل القفزة إلى المنفى استمرارًا للحياة، وفعل إيمان بأن الأرض، مهما طالت المسافة، ما زالت تنادي أبناءها بأسمائهم الأولى.

لكنّ المنفى، في جوهره، وجهٍ آخر للوطن، وكلاهما قيد. المنفيّ، حين يعبر البحر، لا يتحرّر من الوطن، بل يدخل مصنعًا آخر للاستغلال. يتحوّل من عاملٍ غير شرعيٍّ منسيٍّ في مناجم الكوبالت إلى عاملٍ رخيصٍ في خطوط الإنتاج الأوروبية، بروليتاريٍّ عالميٍّ بلا هوية يصارع آلةً من العنف الطبقي والعنصرية المقنّعة.

أمام هذا الخراب، يولد وعيٌ جديد: وعي بروليتاريّ كونيّ يرى أن الأرض كلّها محتلة، وأن الوطن الحقيقي ليس قطعة ترابٍ تُرسم على الخريطة. وعي يرى أن الوطن هو لحظة التمرّد الجماعي. المنفيّ الأفريقي، إذن، لم يسقط من وطنه، بل من النظام العالمي نفسه. لم يعد يبحث عن جوازٍ جديد، بل عن طريقةٍ لنسف العالم القديم، ذاك الذي وصفه غرامشي ذات يوم بأنه “يحتضر، بينما الجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش”.