قفزنا… فوقعنا في اليقظة

أعادت ثيمة هذا العدد إلى ذهني مشاهد من فيلم “القافز” أو “المتنقل” (2008 Jumper) وهو فيلم تجاري اعتيادي يحمل في حبكته فكرة مذهلة ارتأت الشركة المنتجة التعامل معها بطريقة هزلية وابتذال تسويقي. وللأمانة، لم يتطلب الربط بين ثيمة العدد والفيلم جهدًا من ناحيتي، فالفيلم وكلمة السّر يتشاركان مصطلح “القفز”. وللأمانة أيضًا، في اللحظة التي وصلت فيها رسالة التعريف بالثيمة، كنت أحضر اجتماعًا لناشطين أكاديميين… أناركيين… يساريين… يناقشون الخطوات التالية بعد توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة، الخطوة التالية بعد زوال المعنى (؟) هل نبحث عن قضية أخرى؟ نقفز إلى السودان؟ إلى إيران مرة أخرى؟ نريد قفزة نوعية، مدويّة، وتشويش يخلق صدىً كبيرًا لنقول أننا.. نحن.. هنا!
كان يمكن للقفزة أن تكون خلاصاً في هذا الفيلم. فالفكرة بسيطة ومغرية: شخص يملك القدرة على تجاوز المكان في لحظة، ينتقل من عتمة إلى ضوء، من حصار إلى فضاء مفتوح، وكلّ ما يترتب عن ذلك: وعي يحرّر، نقد يهزّ البنى، ثورة تحمل الإنسان من الضرورة إلى الحرية. لكن الأداء كان “مبهبط” علينا. تحوّل الوعي إلى استعراض، والمثقف إلى بطل حركة بطيئة، يقفز في الهواء من دون أن يهبط.
كان يمكن لتاريخ الأفكار أن يدوَّن عبر الأصوات لا الكلمات لو أعار أحدهم أذُنَه للضوضاء التي خلّفتها كل القفزات في الهواء. لكن القفزة من الماركسية إلى “الووكية” أو “اليقظوية” (wokeism) كان لها الوقع الأكبر في المرحلة الأخيرة من تاريخنا. لم تكن تلك القفزة حدثاً، بل مرحلة جديدة في البلاغة، بلاغة التنقّل المريح بين الأضداد: من يسارٍ كان يرى نفسه “ضمير العالم” إلى يسارٍ يوزّع ستيكرات الوعي كعيناتٍ مجانية في مؤتمر حول الأخلاقيات.
ولأن كل قفزة تحتاج إلى شعار، وُلدت الووكية كعروس القفزات، وضعت “العدالة الاجتماعية” أحمر شفاه، والتقطت “السيلفي” وهي تعتذر عن ويلات التاريخ. إنها نسخة محدّثة من اليسار – يسار فرض عليه السوق جراحة تجميلية فأزال لحيته، ثم ارتدى Hoodie، وراح يشرح “فائض القيمة” على “الستوري”. ترفع الووكية شعارات الثورة، لكنها لا تحبّذ ضجيجها. هي الوعي من دون خطر، الثورة بنسخة آمنة، عائلية، مقاومة بلا عرق ولا دم، مجرّد “بوست” مكتوب بعناية.
وفي العمق النظري، يبدو المشهد أكثر فداحة. يقدّم كارل رودز في كتابه* تشريحاً بارعاً لهذه القفزة: الرأسمالية، وقد عذّبها “ضميرها”، قررت أن “تستيقظ”. لكن هذه اليقظة لم تكن توبةً، بل تسويقاً. إذ صارت الشركات الكبرى تتبنّى خطاب العدالة من أجل تفاديها، وتستعير مفردات المقاومة كي تُحافظ على الامتياز. وكأن السوق صار “واعياً” اجتماعياً ليواصل التربّح من هذا الوعي تحديدًا: “باسم الديمقراطية، ومن أجل المصلحة العامة، يجب مقاومة الرأسمالية الواعية”، يكتب رودز، مذكّراً بأن هذا “الوعي” ليس نورًا بل مخدّراً للوعي.
هكذا أصبح مُريدو اليقظوية مواطنين صالحين في بلادٍ يقودها أمثال ميرتس وترامب وفيلدر. بلادٌ تسوّق التناقض كقيمة وطنية، وتبيع الجموع ضميراً يقظويًا بالتقسيط المريح. لماذا وافقنا على ذلك؟ الحقيقة أننا لم نعد نريد المخاطرة بامتيازاتنا الصغيرة، تلك التي بنيناها بعناية على أنقاض المبادئ القديمة. كلّ ما نريده اليوم هو أن نكون “On The Right Side of History”، ولو كانت هذه الجهة لا تُفرّق بين المحتل والمستثمر، بين الثورة والصفقة، بين الوعي والإعلان.
قد يكون الخلاص معلّق بالاعتراف بأننا، عندما نقفز، نحمل الزانة نفسها. زانة طويلة، مصقولة جيداً، مريحة للقبضة، لكننا ننسى أنها مصنوعة بجهد وتعب آخرين لا نعرفهم. نحمل الزانة، نقفز عالياً، فوق من لا يستطيع حتى أن يمشي. “نستيقظ” لأنهم ما زالوا ينامون في الضواحي الفقيرة والمصانع والمخيّمات والمرافئ. ولذلك، فإن الخطوة الأولى تبدأ بإزالة الحواجز وتقريب المسافة، فلا نحمل زانة، ولا نحاول القفز لنرى العالم من فوق.
بالعودة إلى فيلم Jumper، يبدو أننا قفزنا من فوقه بعد أن تحدّثنا عنه في بداية هذا النص. فلنعيد توصيف الفيلم بناءً على ما كتبناه: هو فكرة، جميلة، بلا ميزانية، ولا إرادة للخيال، لكنّ شاشة العرض تعمل، والتذاكر تباع، واما القصة فبلا نبض ولن يستيقظ البطل.
* Woke Capitalism: How Corporate Morality is Sabotaging Democracy

