سراب اللغة
“أنتَ بجملةٍ واحدةٍ أعطيتَ سفينةً لنوح
وعصا لموسى
وللمسيحِ جرحًا في الخاصرة
هَبْ لي جملةً بها أبدأ”
أحمد عبد الحسين
تعجز الأنامل عن الكتابة وملاقاة اللغة والكلام. أفكّر في كثيرٍ من المصطلحات. كالــ”جوع” مثلاً. فمنّا من يعتبر نفسه جائعاً لأنه لم يأكل منذ بضع سويعات. ومنّا من يعتبر نفسه جائعاً وهو يعتاش على نصف رغيف من الخبز في اليوم. هذه المساحة الكبرى في توصيف “الجوع” كمثالٍ بسيط، وهذا البُعد في ملاقاة شكل الألم على حقيقته دون مراوغة أو مساومة يبدو كمهمّة مستحيلة. تصبح اللغة عاجزة وعجوزة، بعيداً عن الحاضر وأشكاله. أبحث عن جُملٍ كثيرة، أو حتى جُملٍ قليلة لمعرفة الحق ولمعرفة القصة ولكي أمسك الخيط لحياكة بعض الوضوح في العيون. أضيع بين الخيط والإبرة وأيادي الأحرف والجمل.
إذا كانت هذه اللغة هي الأصل الممتد من الفرع، فلا بدّ أن شوائب السُمّ قد حكمته. ولا بُدّ من مراجعة مفهوم “المعنى” من جديد. ولا بُدّ من مُساءلة كل كلمةٍ عن جدوى لفظها ومكانها. أفكر في فائض الكلام والجمل، فائض المحتوى والصور. فائضٌ ممتلئٌ بالشغور. أفكر في “فري بلاسطاين”، وكيف تمدّد الشعارات إلى خواء لا يسمن ولا يغني من جوع. فما هي “بلاسطاين”؟ وما معنى “فري” حقاً؟ ولماذا يقولها المهاجر على أرض بار في برلين؟ ومن هو الفلسطيني حقاً في كلّ هذه المُساءلة؟ تصبح الشعارات شيئاً من العقاقير التي تُسكّن جرح اليأس والاغتراب، وتزيد من المسافات عن الحقيقة بألمها. نخسر فلسطين كل يوم أمام تلك المسافة بين الحقيقة والمعنى. تصبح رحلتنا لإمساك اللغة بعُريها الشامل ضرورةً لمعرفة حياكة الواقع.
أرى في ملاقاة اللغة بعضاً من الشجاعة التي لا تراوغ، تلك التي تريد أن تُعيد الأشياء إلى أصلها. فإذا كان الحرف وُجد لملاقاة الآخَر، ولخلق حركةٍ في الواقع ولترجمة تجارب ومشاعر فما عاد لجميع عقاقير الشعارات أي جدوى سوى زيادة عُمق حُفرة الظلام التي نحن فيها. وليس في أيادي من يواجه الحكاية والجريمة ترف اللغة أمام النجاة. تصبح اللغة ترفاً قديماً لا يُحاكي ألم الأرض والجريح والشهيد.
أعود لمعاني “الفقد” ووسعه الشاسع. هناك من فقد روحه مقابل من فقد عائلته. كيف تسع كلمة “الفقد” الألم حقاً؟ وكيف يصف المرء الخواء الأكبر الذي سيرافق روحه مدى الحياة؟ كيف نخلق كلماتٍ وجمل تُساعد في مداواة هذا الموت أو حتّى في توصيف الجريمة؟ كيف تصبح “نقاط توزيع المساعدات” بؤراً من فائض الموت والغدر؟ وما هذا الجرح الكبير بين الكلمة والحقيقة؟
***
تتفرّق الأماكن في الأحلام، أُغمض الجفن ويسكنني السواد الأعم.
يقول هيثم الورداني: “النوم هو اللغة الوحيدة الممكِنة لمشاركة الألم. لأننا عندما ننام نتوقف عن التشبث بألمنا ونطلقه. نحن لا نتحرّر منه لكي ننساه، ولا لكي نسكّنه أو نتجاهله، وإنما لكي نصله بالألم خارجنا فيصبح ألمنا هو ألم العالم، كما بدأ.”
يضيف الورداني: “يأتي الألم من العالم، فينغرز كشوكة، ثم يتمدّد. يخترق الطبقات العميقة بفضل نهايته المدبّبة، ثم ينتشر فيها فلا يبقى جزء من الروح لم يتشبع به. الألم يعزل من يمسّه ويجعله يقضي ليلته دائراً في فلكه إلى ما لانهاية. يظلّ المُسهد ينظم القصيدة تلو القصيدة، يتوه في هذيانات ليليّة، يتضرّع، يشكو، كل ذلك بحثاً عن تلك اللغة التي ستُعينه على الحديث مع الألم لكنه لا يجدها. إذ كيف يمكن للمُسهد أن يفارق ألمه من دون لغة جديدة؟”
يُكمل عبد الحسين “أَعْطِنِيْ الجُملةَ الأولى واتركْني حتّى الفجرِ أنقلُ دِلاءَ الرّمادِ دَلواً دَلواً إلى هذهِ الورقة. ألا ترى كيفَ شَدَدْتُ نطاقيْ، كيفَ تهيأتُ وتعبأتُ كأنْ قامتْ قيامتيْ، وسَطَعَ عليَّ في التوِّ واللحظةِ بدرُ العذوبةِ الأسودُ الذيْ.”
كأننا نُناجي السبات بالاستفاقة بإعادة البلاغة إلى موضعها. بتحويل هذا الغضب الممزوج مع العجز إلى لغةٍ متشابكة مع الواقع بدلاً من إغترابٍ مقيت. أن تكون تلك الأفرع من اللغة مربوطةً ومتّسقةً بشيءٍ من الجذر والمعنى لا لأحد سوى أنفسنا.
أذكر وليد دقة حين سُئِلَ عن كتاباته فقال: “لا أكتبُ إلا لأنني أريد الصمود في الأسر. لم أكتب للإبداع، فغالبية ما كتبته هو رسائل لزوجتي وأشقائي ولأصدقائي، وقد وجد فيها بعضُ المُبدعين قيمة أدبيّة. عندما يُدفن جسد تحت أطنان الباطون والحديد والأسلاك الشائكة وأمام هذه الحقيقة المذهلة التي إن بقيَت للعين ومعالجات العقل المحض قد تصاب بالجنون. الجنون في واقع مجنون هو قمّة العقل. لذلك خيالي العقلي يُنشئ واقعاً آخر يتجاوز أسوار السجن، والكتابة عملية تسلّل خارج السجن أحاول أن أمارسها يومياً، وهي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة مع الحياة، حياة الناس وهموم شعبنا وأمتنا العربية. هذا لا يعني أن الكتابة انفصال عن واقعي داخل الأسر، ومن ثمّ بقدر ما هي إنشاء لواقع داخل النص..”
أبقى أُسائل جدوى اللغة والكلام وسط أحواض الدماء وأوراق النعوات المتتالية. أعود للسلاح دائماً أمام يأسي من اللغة. لكنّ جزءاً من روحي يرفض هذا العالم الذي لا يُجيد سوى لغة السلاح والمال. أطوف في أسئلة الجدوى واسترداد المعنى في المنطوق والمسموع والمرئي.
أعود إلى قصيدة درويش حين قال: “أيها المارون بين الكلمات العابرة / منكم السيف – ومنا دمنا / منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا / منكم دبابة أخرى- ومنا حجر / منكم قنبلة الغاز- ومنا المطر / وعلينا ما عليكم من سماء وهواء / فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا / وادخلوا حفل عشاء راقص .. و انصرفوا / وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء / وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء.”
ربما علينا أن نخرج بلغةٍ جديدة، لغةٍ لا تطفوا كــ”كلمات عابرة”، بل تُطوّع الواقع لما تريده لنفسها. يمتد فيها الحرف من الماضي إلى الحاضر ولا يكون سريع الخدمة والذوبان. ربما نحتاج لمُنزَلٍ جديدٍ يحاكي هذا الجنون دون مراوغة. لغة تفيض بالكلمات التي تصف.. تصف حقاً حقيقة الجريمة والألم. لغة لا تُسكّن الجرح بل تفضحه وتصفه كما هو بكامل عنفه ورعبه وقبحه. لغةٌ تشير إلى المجرم بوضوح. لتصبح مرآةً نعرف فيها أنفسنا وعارنا وذنوبنا لنخرج من الواقع الغارق بالوهم الدامس. لغةٌ خائفة وحريصة على الاتصال بالواقع بدل الانفصال عنه. لغة لا تنتهي بالكلام والمشهد، بل تتشكّل بالفعل واليد والحركة وتمتد إلى النفوس وشياطينها مع ملائكتها. تتصّل بالوجود وتُحرّكه حقّ حركةٍ تُطيّب الجرح وتخلق النور في هذا الظلام.


