الفِردوس إذ يُخرَق ثم يُحرَق

النسخة الانجليزية

في قديمِ الزمان، كان هناك رجل وامرأة أُعطِيا كل ما يمكن أن يحلما به: حياة أبدية، صحة، جمال، سلام، وأحدهما للآخَر. تجوّلا عاريين في حديقة تفيض بخيرات بلا حدود، بشرط واحد فقط: ألّا يأكلا من شجرة واحدة، ألّا يَعرِفا قيمة ما يملكان بإدراكهما ما لم يملِكا. مثل الطفل الصغير الذي يُقال له مرارًا وتكرارًا ألا يلمس القِدر الساخن مهما بدا البخار المتصاعد مغريًا، لم يكن الرجل والمرأة يعرفان الألم ولا العواقب، ولا أي شيء خارج وجودهما الآمن والهادئ. فكيف يمكن للمرء أن يعرف كم هو محظوظ إذا لم يعرف مدى السّوء الذي يمكن أن تَصل إليه الأمور؟

في عالمهما الذي يفيض خيرًا لامتناهيًا، كان رَحِم الخالق واسعًا بما يكفي لإلغاء كل حلم أو فكرة تتجاوز ما هو موجود أصلًا. ولكن، بقي هناك قيدٌ واحد: الشجرة. ومع مرور الأيام، أصبح الكمال أمرًا مألوفًا في نظرهما. وأصبح الجمال المطلق مُمِلًا أكثر فأكثر، مجرد مُعتاد روتيني. بينما ظلّت الشجرة، بأسرارها، الشيء الوحيد الذي يقف خارج هذا الرحم الواسع-المحدود، الشيء الوحيد الذي يستحق الفضول في هذا الفردوس. وسرعان ما أدرك الرجل والمرأة أن هناك أمرًا واحدًا فقط متبقٍ يستحقّ انتباههما في حال أرادا الخروج من رتابة الأيام في هذه الحياة الأبدية وكسر ملل الفردوس: كان عليهما خرق القاعدة الوحيدة المفروضة عليهما. كان عليهما أن يأكلا من الشجرة.

يُقدِّم الفلاسفة واللاهوتيون قصة عصيان آدم وحواء وطردهما من الجنة بطُرق مختلفة. يدعونا اللاهوتيون الكاثوليك التقليديون إلى قراءتها كتذكير بالخطيئة التي وُلدنا جميعًا بها، كإدانة لكوننا من نسل آدم. بينما يدعونا آخرون مثل كارل يونغ أو نيفيل غودارد لقراءتها من منظور نفسي-روحي، كلحظة تأسيسية في رحلة ولادة الوعي. آخرون مثل إريك فروم يقترحون قراءتها كإعلان افتتاح للتاريخ البشري، كفعل تمهيدي حرّر الإنسان من وجوده الجَنيني. في كتابه “في العصيان”، يكتب فروم: “كان على الإنسان أن يغادر جنة عدن لكي يتعلم الاعتماد على قواه الخاصة ويصبح إنسانًا بحق”1. يقترح فروم، وسيتوسّع في فكرته في هذا الفصل، أن العصيان، بدلًا من كونه الرذيلة في مقابل فضيلة الطاعة، هو غالبًا فرصتنا الوحيدة لنصبح أكثر مما نحن عليه، للوصول إلى الحرية التي هي حقنا الإنساني، واحتضان تحوّلاتنا نحو التكوين كأفراد وجماعات. في نهاية المطاف، يرى فروم أن هناك لحظة تأتي في كل نظام، خصوصًا تلك التي تهيمن عليها سلطة غير عقلانية، لا يكون فيها سبيل للتطور إلا عبر الثورة. وكتبنا المقدسة وأساطيرنا تكتظ بقصص الآلهة والأنبياء الذين تحدوا السلطات السائدة وغير العقلانية باسم العدالة وتحقيق الإنسان لذاته، من بروميثيوس إلى محمّد.

نشاهد اليوم اقتراح فروم يتجسّد بأوضح صورة في أعقاب اختراق كتائب عزّ الدين القسّام لسياج غزة في السابع من أكتوبر. مثل قرار آدم وحواء بعصيان أوامر الله، وكما هي حال كل عصيان ثوري، كان ثمن القرار الفلسطيني بتحدّي سلطة الاحتلال باهظًا. فمنذ ذلك اليوم، قُتل أكثر من 50 ألف فلسطيني حسب التعداد الرسمي لوزارة الصحة في غزّة الذي يحصي فقط أولئك الذين وصلت جثامينهم إلى المستشفيات- فيما لا يزال عشرات الآلاف مفقودين تحت الأنقاض نتيجة القصف الذي استهدف بنية غزّة التحتية وبيئتها، وأكثر من مليون إنسان، لحظة كتابة هذه السطور، على شفا المجاعة. قد ينظر البعض إلى هذه الحقائق ويعتقد أن قرار تحدي دولة عسكرية بهذه القوة كان قرارًا غير حكيم، لكن إن صحّ هذا، فلا بد أن نسأل: هل كنّا لِنُدين آدم وحواء أيضًا لقرارهما تحدّي خنقة الفردوس؟ هل نلوم الطفل الذي يمد يده نحو القدر الساخن؟ هل كان آدم وحواء غير حكيمين حين اختارا الفرح، واللذة، والعمل، والمعاناة، والحياة والموت، على رتابة الكَمال الذي لا يمكن أن يقارن بأي شيء آخر (وبالتالي الكمال الذي لا يمكن التعرف عليه)؟ وهل يكون الطفل غير حكيم إن تبع فضوله نحو ألم محتوم على حساب نعيم الجَهل؟

ولكن، ما ميّز عبور السابع من أكتوبر عن عصيان آدم وحواء أو فعل الفضول لدى الطفل، هو أن آثار الفعلين الأخيرين اقتصر على واقع المخالفِين أنفسهم، بينما امتدت آثار الأول لتوقظ الوعي العالمي للمجتمع الدولي بأسره. عصيان آدم وحواء أيقظهما على معرفة الخير والشر؛ وعصيان الطفل أيقظه على معنى الألم؛ أما اختراق مقاوم فلسطيني الحاجزَ الذي سجنه في وطنه منذ ولادته – فقد أيقظ العالم على حقيقة حياته – أنه يقبع في سجن بصَمتٍ.

في ربيع 2021، ونتيجة لعمليات إخلاء الفلسطينيين في القدس الشرقية وجرأة بعض النشطاء الفلسطينيين، وعلى رأسهم محمد الكرد، “بدأ” العالم يسمع عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال. لكن تلك الأخبار، التي أتت بعد عام واحد فقط من حالة الطوارئ المرتبطة بـ”كوفيد”، سرعان ما تراجعت إلى خلفية مشهد مملوء بنظريات المؤامرة حول اللقاحات وتهديد الحروب السيبرانية. حدثَ بالفعل شرخ صغير في النقاش، لكنه لم يكن كافيًا لخلق فعل تحدٍ حقيقي يُحدث هزّة في الوعي العالمي. كان مجرد ظلم آخر ترتكبه سلطة أخرى، لا يختلف عما يحدث في أي مكان آخر في العالم، فسارع مسؤولو الإعلام وروبوتات الدعاية الصهيونية لإخماد النقاش بادعاءات أن أي إشارة تميّز فلسطين عن غيرها ما هو إلا معاداة للسامية. أما أنا، فقد تم التنمر عليّ لإسكاتي على منصات التواصل الاجتماعي من خلال حملات تشويه صهيونية هددت نمو حسابي ومصدر دخلي.

بعد عامين ونصف، ومع تلاشي كوفيد في الذاكرة كحلم محموم، حدث شيء جديد في السابع من أكتوبر 2023: كُسر الحصار، واختُرِق الحاجز، وجوبِهَت سلطة أكثر قوات الاحتلال تمويلًا ودعمًا على وجه الأرض، وانتشرت روح المقاومة التي كان تتردّد همسًا على شفاه الشباب حول العالم. وسرعان ما بدأت السردية التي لطالما دعمت صورة الاحتلال كقوة عادلة بالانهيار، حين لجأ ناشطون من مختلف الأديان والأعراق والجنسيات إلى وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة معارفهم، فكُشف أخيرًا الوجه الدموي للعسكرة، والإرهاب، ومئة عام من البروباغندا. استيقظ الآدم والحوّاء في كل مكان من نعيم الجهل، ولحق بهم المزيد، ولا يزال الفلسطينيون يدفعون ثمن هذه اليقظة بأرواحهم يومًا بعدَ يوم.

يحب المستوطنون الصهاينة ومناصروهم أن ينقّبوا في حسابات الغزيين قبل ذلك اليوم المصيري، ويعرضوا صورًا ومقاطع لفلسطينيين وهم يبتسمون، يأكلون، يرقصون، ويحتفلون مع أحبائهم كنوع من “كمشتَك”، ليقولوا: “إذا كانوا مضطهدين حقًا، فلماذا يبدون سعداء؟” وكأن المطلوب من المرء أن يلبس يأسه كقِناع لا يمكن خلعه، وكهوية لا هروب منها، وإلا فلا يمكن لمعاناته أن تكون حقيقية. أولئك، أصحاب الامتيازات العظيمة الذين يخطون الأرض بثقة متعجرفة ومن دون محاسبة أينما حلّوا، يجدون صعوبة في فهم ما يعنيه أن يصنع الإنسان الفرح من ظروفه. وربما لم يتوقفوا لحظة ليتذكّروا أن حتى عدن، حتى الفردوس، يصبح سجنًا عندما يُمنع العقل من أن يسرح. فماذا عن الجسد المحاصَر في 365 كيلومترًا مربعًا من الأرض المسيجّة؟

  1. إريك فروم، في العصيان، الفصل الأول: العصيان كمسألة نفسية وأخلاقية (1963) ↩︎