إنزلاق

لم يذكر، حتى في عزّ فتوته، أنهُ كان يركض إلى هذا الحدّ. من يراه يستغرب، كيف يجد هذه الطاقة كُلّها مع تجاوزه سن الشباب بأن يبقى عالقًا عى تلك الآلة التي تدفعه للركض طوال الوقت وإذا توقّف انكبّ على وجهه وتكسّر جسمه. كان يعيش حياته كمن يركض داخل قطار لا يتوقّف، يستيقظ على صوت المنبّه لا على رغبة، يشرب قهوته واقفًا لأن الكرسي “يُضيّع الوقت”، ويقطع الشارع بعينٍ على الإشارة وعينٍ على شاشة هاتفه. عمله في شركة تكنولوجيا كان يملأ نهاره بمواعيد افتراضية ورسائل عاجلة لا تنتهي. يتكلّم بسرعة، يكتب بسرعة، يأكل بسرعة، حتى ضحكاته كانت مقتضبة كإعلانات اليوتيوب قبل أن يتاح له تخطيها. في المساء، حين يضع رأسه على الوسادة، لا ينام فورًا. يسمعُ في رأسه أزيزًا غريبًا، كصوت محرّكٍ ما زال يعمل رغم انطفاء السيارة. حاول ذات ليلة أن يتذكّر آخر مرّة جلس فيها من دون هدف. لم يجد. حتى البحر الذي كان يحبه صار في ذاكرته مجرد صورةٍ في ملفٍّ قديم، صارت ذكرياته ولحظاته، السعيدة والتعيسة منها، تتكدّس في تلك الملفات حتى صارت وكأنها تنتمي لشخص آخر، يتصفحها بين الحين والآخر ولا تنتمي له.
في طريقه إلى العمل، كان يرى الناس كأطيافٍ متحرّكة، يركضون وهم يكتبون، يتحدّثون وهم يعبرون الشارع، يبتسمون للهواء. المدينة صارت آلة ضخمة تطحن الوقت، تُحوّله إلى أرقام على شاشة. في مكتبه، كانت الجدران من زجاج، والوجوه خلفها متعبة رغم المكيّف والبدلات النظيفة. الاجتماعات لا تنتهي، المشاريع تتناسل بلا معنى، والتعب يُغطّى بابتسامة افتراضية. كريم كان سريعًا في كل شيء: في الردّ، في التفكير، في الأكل، حتى في نسيان نفسه. لم يعد يعرف هل يعمل ليعيش أم يعيش ليعمل.
في صباحٍ بارد، تعطّل المصعد في المبنى. تأخّر عن عمله. جلس على الدرج ينتظر الفنيّ. لأوّل مرّة منذ زمن، لم يكن هناك شيء يمكن فعله. لا إشعارات، لا اجتماعات، لا إنجازات. فقط صمتٌ وبطء. سمع من الشارع صوت بائع متجوّل ينادي بلهجةٍ قديمة، ورائحة مناقيش خرجت من فرنٍ قريب. رفع رأسه، وابتسم. شعر أنّ الدقيقة التي قضاها هناك كانت أطول من أسبوعه كلّه. جلس هناك، يراقب الغبار الذي يطفو في الضوء، يسمع حفيف الريح من النافذة، وصوت طفلٍ في الطابق السفلي يضحك. شيء ما في صدره تحرّك بعد طول خمول.
حين عاد المصعد للعمل، لم يصعد. نزل على قدميه، خطوةً خطوة. كأنّه أخيرًا يمشي لا يركض. لقد جرّب البُطء بعد أن نسيه، والآن قرّر أن يعيشه. حين توقّف عن الركض، أدرك أن البُطء ليس ترفًا، بل خلاص. كان يشعر وكأنّ جسده يُعيد اكتشاف نفسه بعد سنواتٍ من الإسراع في كلّ شيء، كأنّه يتذكّر كيف يُمسك الأشياء من دون خوف من ضياع الوقت. صار يمشي ببطءٍ متعمّد، يراقب ظلّه يمتدّ وينكمش على الرصيف، يسمع وقع خطواته ويبتسم. اكتشف أن البطء يحمل نوعًا من الكرامة. أن لا تُساق كحصانٍ في سباقٍ لا تعرف غايته، بل أن تختار أنت السرعة التي تناسب نبضك. في البُطء يصبح العالم أكثر صدقًا: الأصوات لا تختلط، الألوان تتمايز، والوجوه تستعيد ملامحها. حتّى الكلام يصير أكثر حنانًا، حين لا يُقال على عجل.
في الأيام التالية، صار يخرج قبل موعد العمل بنصف ساعةٍ إضافيّة فقط ليتمكّن من السير على مهل. يمرّ على بائع الزهور ويبادلُه التحية، يشتري خبزه من الفرن القديم ويشمّ البخار الخارج من الأرغفة كأنّه عطرٌ مقدّس. لم يعد يريد أن “ينجز” يومه، بل أن “يعيشه”.
كان الناس من حوله يركضون كالعادة. هو أيضًا كان واحدًا منهم ذات يوم، يظنّ أن السرعة قوّة. الآن يرى أن البطء هو الشجاعة الحقيقية. أن تجرؤ على أن لا تلاحق العالم، أن تدعه يركض من دونك، ثمّ تراه من بعيد وتبتسم.
صار الزمن عنده أقلّ قسوة. الدقيقة الواحدة التي كان يمرّرها في ازدحام الرسائل صارت تمتدّ كحديقةٍ كاملة. تعلّم أنّ البطء لا يقتل الطموح، بل يطهّره من الحُمّى. أن البطء ليس مضادًّا للحياة الحديثة، بل هو طريقةٌ لاستعادتها من أيديها المعدنية.
إن صديقنا هذا، يُعبّر عن نموذج الإنسان الحالي. الذي بات يستقبل كمّ هائل من المعلومات والأخبار. بظرف دقيقة واحدة يستقبل ما لم يستطع استقباله بسنوات قبل مئة عام. لا يجب أن يتوقّع على إثر ذلك أن يبقى طبيعيًا ينتمي للأرض. كُلّ شخص منّا يحمل ثقل ذلك ويدفعه تجاه الآخر. إستقبال كُلّ شيء سيُضيّع اتّزانك لا محالة. الإنسان كائن أُعدّ ليكون بطيئًا، وكُلّ الأشياء من حوله باتت مُغالية في السُرعة. الطريق والرحلة. بداية الشيء باتت ملصوقة بنهايته. قفز سريع للنتائج بلا صبر. فلا شك أنّك ستُعاني من هذا الإيقاع. العلاج؟ بعض البُطء وسحب يَديك في غالب الأحيان من الآلة. الحياة تتّبع مجراها.

