في الوقوف بين أصل الأشياء وفروعها

ناقل الحركة على الوضع العكسي، اليَد تتشبّث بالمِقوَد، المِقوَد يتلفّت يمينًا ويسارًا، العين تحدّق في مرآة الرؤية الخلفية، ”الأشياء التي تراها في المرآة أقرب مما تبدو عليه”. القدَم تغرق في دوّاسة الوقود، الدوّاسة تطعن الزمن في ظهره. المحرّك يتوعَّد. في الحَقلِ البعيد، داروين مشغول بانتقاء نباتات ضارّة وجَمعِها في راحة كفّه، يتمعّن في شكلها، يفتح صفحة جديدة في مدوّنة أصل الأنواع، يكتب ملاحظة ساخرة: “رُبَّ ضارةٍ نافعة”. نيتشه يتمدّد على سرير في نفس الحقل المعجميّ الواقع في ريفِ جينيالوجيا. يرفَع سبابته معترضًا: جينيالوجيا الأخلاق! لا فاعل خير أو صاحب أصل في هذه الأرض يرغَب بشراء البقدونس العفن منك. لن يتّخذ أحد قرارًا سليمًا انطلاقًا من أخلاقه. الدنيا مَصالح. هذا أساس كلّ سلوك. أختُ نيتشه تَبكيه بحسرة. يردّ عليه داروين: كزبرة! هذه كزبرة وليست بقدونس، النبتتان تتحدّران من نفس العائلة، الاحتمالات تتفرع من أصلها. 

***

معدَن

الراديو في السيّارة ينادي بِمُثُل أفلاطون: معدن الناس، نحاس، حديد، فضّة، هي أصل البرّادات والمكيّفات والأشياء. أصلُ الفكرة، وأصولية التطهير، وأصالة الرجعية التي ترفض التجديد. جميعها تظهر  بوضوح متى التفتّ خلفكَ. يفترسُك المجتمع الدوليّ “الأخلاقي” بالفصل السابع. يستأصل ما يعتقد أنّها العِلّةَ المتأصِّلة فيك، أي ما ترسَّخ وتعمَّق، وما طاوع الأصل. يُقال: “بلا أصل”، “يحكي بأصله”، “أصله نوري”، “مجنّس”، “عائلة عملاء”، “جدّه تعامل مع المستعمِر”، “تربّوا على الذلّ”، “تربّى على الكرَم”، “بيشبهونا”، “ما بيشبهونا”، “أغبياء جميعهم قذرون”، “دود الخلّ منهُ وفيه”. ألمانيا ليست بعيدة عن تاريخها، إسرائيل لا يمكنها أن تهرب من لا-تاريخها. التفاح لا يسقط بعيداً عن الشجرة. شجرة العائلة. أصل الناس. “الناس أنواع” يردّدون. “الأصلي” هو ما “لا يَبعَصُك” في خِضَم “المَعمَعة”، ما كان أَصْلاً في معناه، غير زائف أو مقلَّد أو صناعيّ. الأصلي هو “نسخة أصليّة” تعرفُ منشأها، أصلها وفصلها. السُكَّانُ الأَصْلِيُّونَ لا يتزحزحون عن الفكرة حتى لو دُمّرت منازلهم وتشتتوا. “رحلة” لا تُستَنسَخ. حذار أن تتشتت اللغة الأصليّة: اللغة الأمّ. العودة دائمًا إلى الأُم.

***

أصلي

يركن السيّارة على مفترق طُرُق، فيصعد صديق قديم: “حبيبي يا أصلي”، يتودّد له بلغة الشارع. كلّ من في الشارع يعرفه. من عاش في الشارع يعرف كيف يتنقّل بين الطرقات الفرعية التي تجهلها الشرطة. يعرف كيف يعود إلى الأصل، أي ما يَبعَث بالاطمئنان، بالانتماء، يفتخِر: “ليس لدينا فرع آخر”. “REPRESENT”، شِعار من لا يتخلّى عن رَبعِهِ في الغيتو. يقول: “عندي شريط أغاني أصلي”. تَفهَم أنه لن يعيرك الشريط حتّى لو كنتم أعزّ الأصحاب. القدَمُ ما زالت تدبك في صدرِ دوّاسة الوقود. فجأة تتبدل ملامحه: أنزِلني هنا، أنا سوف أكوّع: “أصلًا أنا قلت لك منذ 15 سنة إن التطرف والاصولية لا ينفعان، نعم نحن كنا ندعم ثورة شَعب مظلوم، ولكن بِحذَر”. يرسُم شجرة في الهواء ويقطع غصنَهُ ثم يعود أدراجه، إلى مكّة. “أعاد تموضُعَه”، يقولون. “انسلَخ”، يشمتون. داروين يَلعن أصلَه: “منافق سيلتصق بشجرة أخرى متى استشعر النقص. Parasite، طفيليّ”. ليست كلّ عودة إلى الأصل حركة مباركة، وليست كلّ تكويعة نوعًا من التطهير. بل هي أفعال أقرب إلى تبرئة ذمّة، تبرّؤ من خلال التنظير، عار يلاحق كل من نادى “حبيبي يا أصلي” ثمّ هربَ من الواقع. 

يركب داروين ونيتشه في مقعد السيارة الخلفي. يراقبان وجه السائق في المرآة وقد بدت على وجهه علامات الأسى من الصديق “الأصلي”. العبارة الأصلية اختفت: “الأشياء التي تراها في المرآة أقرب مما تبدو عليه”. يكشف السائق عن ساعده الأيمن، وشمٌ يقرأ: “البقاء للأقوى”. نيتشه يضحك، داروين يمضغ البقدونس… عفوًا الكزبرة. 

***

انطباع

في نفس الحقل المعجميّ الواقع في ريفِ جينيالوجيا، حيث كان يتمدّد نيتشه في سريره، كان كلود مونيه يرسم لوحاته “الانطباعية”. تكمُن جذرية الانطباعية كتيّار فنّي في حساسيتها. لامسَت القلق والارتياب اللذين أنتجتهما المتغيّرات الاجتماعية ودخان المصانع في أواخر القرن التاسع عشر. طَبَعَت بإتقان “بَصمة” الشعور المتولِّد في الذات البشرية. رسم الانطباعيون انفعالات الروح بدل الأشياء: دفء الأفقِ الأحمَر، هَيبة السّماء البرتقالية، شُعاع النهار المشمِس، ما يلمس الروح ويترك بصمته في ثناياها بعد انتهاء المشهد – شيء يشبه فيروز عندما تدندن طلال حيدر: “إنت وأنا ياما نبقى، نوقف على حدود السّهل”. أصل الأشياء وأصل الصورة. الانطباع الأول: تجربة لا لُبسَ فيها. لا شيء يمحيها من الذاكرة. لا أحد يمكنه أن يسرقها منك. 

***

صورة 

الصورة الأصلية: صورة الشهيد – صورة حقيقية – غير معدّلة، ناصعة، صادقة، تنتمي إلى الأصل – الفكرة الأصلية. صورة الشهيد: أساس يُقام عليه، أوَّل الشيء ومادّته. هو الشجرة المثمرة. هو ما يُبنى عليه الشّيء أو ما يتوقَّف عليه، هو المبدأ في الزَّمان. هُو مِنْ أَصْلٍ شَريفٍ: مِنْ مَنْبِتٍ، مَنْشَإٍ شَريفٍ. لصورتهِ هالة، aura، يقول فالتر بنيامين. هو في الأصْل: في البداية، أساسًا. تمسح حذاءك بأساس ميديا، وفق الأصول، “أساس” أو “سَلَف” يتحدَّر منه الكائن اللّزج وكل ما هو “Jadeed” مماثل له، متحوّر، يتفشّى كالوباء في زمن الحداثة الفيروسية. لا شجرة مثمرة في هذا المحيط إلا وقُطّعَت أوصالها. عبثًا حاولوا استئصالها من جذورها. صورة الشهيد. يبكيه مظفّر: “إننا في زمانٍ يزيدٍ… كثير الفروعِ وفي كل فرعٍ لنا كربلاء”1.

***

إشتباه
قبل حوالي 15 سنة، تجمهرت مجموعة من الأصدقاء كعادتهم أمام مقهى في بلدة شمالية. لفتت انتباههم لوحة إعلانية-سياسية عُلّقَت حديثًا وقُسّمت إلى نصفين. على اليمين، صورة شاب corporate يرتدي بزّة رسمية، حليق الذقن، تدلّ ابتسامته على افتخاره بنجاحه المهني. وعلى اليسار، صورة ملثّم – لا وجه له – يرتدي بزّة عسكرية ويمتشق كلاشينكوفًا. تسأل اللوحة الإعلانية: “من يُشبِهُك؟” (الآن نعرف من أين أتت لازمة “ما بيشبهونا”). “طبعًا الملثّم”، يجيب الشباب المتجمهرون أمام المقهى، ساخرين من اللوحة الإعلانية ومن يقف وراءها. تَذكَّرتُ الحادثة بعد حوالي 15 سنة. التذكُّر يسير مع الفَقد، جنبًا إلى جنب. الاغتراب مع الزحمة. النوم مع الموت. النسيان مع التملُّك. سألتهم عنها. لم يتذكروا أصل الحادثة، ولكن الانطباع بقي محفورًا في الذاكرة. Détournement أو تكويعة إيجابية: في تلك اللحظة، رفضوا كَمين اللوحة الإعلانية، استبدلوها بلوحة انطباعية عن ما يريدون أن يكونوا يومًا ما في بلدتهم الصغيرة وعندما يخرجون إلى العالَم الأكبر. نجحوا، إلى حدّ ما. كان اسم اللوحة: “بالعَكس”! 

***

إرتباط

السيارة تستعجل الوصول إلى أسفل الوادي، تكوّع يمينًا ويسارًا، “الذات في تدهور دائم وعلى تخوم الانهيار الوشيك. هذا هو سرّ النظام المسيطر على الأجساد والعقول. الذات الضعيفة، المكتئبة، الناقدة ذاتَها، الافتراضية، هي في جوهرها ذلك الكائن القابل للتكيّف إلى الأبد رغم الانقلاب المستمر للواقع، القادر على إظهار مرونة شاملة حتى النّخاع. الذات الضعيفة، المكتئبة، الناقدة ذاتَها، الافتراضية، هي في الوقت نفسه المستهلِك الأكثر شراهة، والمفارقة أنها الذات الأكثر إنتاجية، الذات التي تندفع بشغف وحماس إلى أيّ مشروع، لتعود لاحقًا إلى وضعيتها الأصلية في الشرنقة. تسأل نفسها المتكوّمة على نفسها: “ما أنا إذن؟” منذ طفولتي، مررتُ بسيل من الحليب، والروائح، والقصص، والأصوات، والعواطف، وأغاني الأطفال، والمواد، والإيماءات، والأفكار، والانطباعات، والنظرات، والأغاني، والأطعمة. ما أنا؟ مرتبطٌ بأماكن، معاناة، أسلاف، أصدقاء، حب، أحداث، لغات، ذكريات، بكل ما هو واضحٌ أنه ليس أنا. كل ما يربطني بالعالم، كل الروابط التي تُكوّنني، كل القوى التي تُكوّنني لا تُشكّل هويةً، شيئًا يُكشف عنه عند الحاجة، بل وجودٌ واحدٌ، مشترك، حيّ، ينبثق منه – في أوقاتٍ وأماكنٍ مُحددة – ذلك الكائن الذي يقول “أنا”. شعورنا بالتناقض هو ببساطة نتيجةٌ لهذا الاعتقاد الساذج بديمومة الذات، وقلة اهتمامنا بما يُكوّننا”2.

***

أنا والشَّك

يتمالك نفسه، يسمع على ميكروفون أخبارًا عن “نهاية الإصلاح”، “عودة الوحوش”، و”العودة إلى الهامش”. يتبرّؤون من الإصلاح ومن الوحوش التي ما انبروا يهادنونها نكاية بالبديهي. ادّعوا العودة إلى الهامش وهم مِن نُخَب تتكدّس على نُخَب. والنُخَب تمتهن التكويع بلا تشفيط، بلا ضجيج، تكوّع بِدَهاء. تطلق عليهم صديقة تسمية “النخب المعوّمة”. الأهم بالنسبة لهذه النخب هو أن تحفظ طريق العودة. لطالما حافظت البورجوازية على امتيازاتها متى وصلت شفرة “موس” التاريخ إلى رقابها. في نهاية المطاف، يعترفون أنها كزبرة وليست بقدونس، ولكنهم يوجّهون اصبعهم نحو البقدونس، أبدًا لا يعترفون بذنبهم، يدورون في دائرة من ينكر أصله، لا يعرف ما يريد، ولا حتّى أين يركن سيارته. 

في أسفل الوادي، يقترب الصديق “الشكّ” من السيّارة مجدّدًا، يعيد النظر في أصل موقفه، يقول: أنا لم أكوّع، أنا لا أكوّع… ما حصل كان نتيجة “الاعتقاد الساذج بديمومة الذات، وقلة اهتمامنا بما يُكوّننا”. ولكن، في غمرة الذكريات المستعادة، اكتشفتُ أن كلّ ما مرّ عليّ ليس سوى مضيعة للوقت، وأن الأصل هو في المعدن، في العناد، في الشكّ. أُنظُر في وجهي مجدّدًا. ماذا ترى؟ ماذا أرى؟ “أنا إنسانٌ بسيط، ذهبتُ إلى الأشياء بلا قناع”3. اعتقدتُ أن الآخرين  مثلي، وقعوا من نفس الشجرة وراحوا يتجوّلون بلا أقنعة، فكنتُ أردد “حبيبي يا أصلي” وهم يردّون التحيّة كالببغاء الملوّنة. ولكن، بعد صراع طويل مع ديكتاتورية الجينيالوجيا، تخلّيت عن غريزة البقاء، والنزعة الفردية، والمصلحة الشخصية. انتزعتُ الصورة الأصلية من منتحلي الصّفة. رفعت كفّ الشهيد في وجه أصحاب القبعات الزرقاء. مسحتُ الغشاوة عن وجهي فكانت قناعًا، وكنت نسخةً عن غَيري، وها أنا الآن هنا، معك، وقد عدتُ إلى قواعدي سالمًا، نسخة، ولكن أصليّة. لا تقلّ “كوَّع”، قلّ:

“أنا والشّك حبيبان قديمان التقينا
بعد طول الاغتراب ِ
بعدما أطفأت الحكمة
وجه الشمس فينا
فانزوينا نمضغ الوهم سراباً في سراب.”4

  1. مظفّر النواب ↩︎
  2. اللجنة الخفيّة. بتصرّف ↩︎
  3. مظفّر النوّاب ↩︎
  4. كمال خير بك ↩︎