ثقل الكلمة وحدود اللغة: عن الطّرب، سوداد، ودويندي

العناصر الثقافية التي تتبادلها المجتمعات هي كالهواء الذي يتنفّسه هذا العالم. ومع ذلك، تبقى بعض الكلمات متجذّرة في أصولها، عصيّة على الاستيعاب الكامل أو الترجمة الدقيقة أو حتى الشرح الوافي. فهي تحمل في طيّاتها عوالم عاطفية صاغتها الجغرافيا والتاريخ والتقاليد الفنيّة. وبالنسبة للفنان، لا تُعدّ مقاومة الترجمة عائقًا، بل دعوة – مدخلًا إلى بحث ثريّ ومتفرّع يربط بين اللغة والصوت والشكل البصري.

تبرز ثلاثة مصطلحات مُحيّرة لدى دخولنا الحيّز النصّي العصيّ على الترجمة: “سوداد” (باللغة البرتغالية)، و”دويندي” (بالإسبانية)، و”طرب” (بالعربية). كلّ كلمة تتحدّر من تراث موسيقي مختلف – فادو، وفلامنكو، والموسيقى الكلاسيكية العربية – وتُشير إلى حالة عاطفية تبدو وكأنها تتلاشى ما إن نحاول الإمساك بها بكلمة مترجَمة.

“سوداد” (Saudade) هو الشوقٌ المطعَّم بالحنين إلى الماضي. و”دويندي” (Duende) شرارةٌ روحيةٌ ترتقي بالأداء إلى السموّ. أمّا “الطرب” فهو غمرٌ بالنشوة، يفيض عند الاستماع إلى الموسيقى. هي مشاعرٌ بقدر ما هي كلمات، متجذّرة في سياقها، وعصيّة على الترجمة النصيّة. 

حين يستمع برتغالي أو برازيلي إلى موسيقى “الفادو” (Fado)، قد يستحضر كلمة “سوداد” للتعبير عن حالته العاطفية. فـ”فادو” تعود جذورها إلى الكلمة اللاتينية “fatum” التي تعني “القَدَر” أو “الموت”، وحتّى “البوح”. ويشيع التعبير البرتغالي “الموت من السوداد” (morrendo de saudades)، أو حتى “قتل السوداد” عبر إشباع الرغبات (matar saudades)، في ربط وثيق بين العاطفة وموسيقى القدَر أو “الفادو”.

وبالمثل، عندما تقول امرأة إسبانية إنها “امتلكها الدويندي”، فهي تعبّر عن استسلامها لحالة روحية تثيرها موسيقى الفولكلور الأندلسي. ومستندًا إلى استخداماتها الشعبية والفولكلور، انخرط الشاعر والكاتب المسرحي الإسباني الشهير لوركا في عملية تطوير جماليات “دويندي” لأول مرة في محاضرة ألقاها عام 1933 حيث جمع بين أربعة عناصر تشكّل حالة “دويندي”: “اللاعقلانية، الترابية (البسيط، الشفّاف، غير المصطنع)، الوعي العميق بالموت، ولمسة من الميل نحو الشيطاني”.

أما في حلب أو القاهرة، فيصرخ السمّيعة “طرب! طرب!” أو “أطربنا!” إعلانًا عن حالة من النشوة الجارفة، سواء كانت فرحًا أو حزنًا. وفي “لسان العرب”، يعرّف ابن منظور الطرب بأنه “خفّةٌ تَعْتَري المرءَ عند شدَّة الفَرَح أَو الحُزن والهمّ”. ويقول المتنبي: لَا يَمْلِكُ الطَّرِبُ الْمَحْزُونُ مَنْطِقَهُ وَدَمْعَهُ وَهُمَا فِي قَبْضَةِ الطَّرَبِ”.

لكن بدلًا من مجرد تعريف هذه المصطلحات، علينا أن نسعى إلى لتجسيدها بصريًا وصوتيًا ونظريًا. وقد تكون العاملة في فنّ الطباعة على الخشب هي الأكثر قدرة على خوض هذا التحدّي. فالوسيط، وهو الطباعة على الخشب، يُمثّل مادةً واستعارةً في آنٍ واحد. فالطباعة على الخشب شكلٌ من أشكال الترجمة، إذ تنقش شكلًا، وتحبِرُه، وتضغَطُه، فتظهر بالتالي صورةً طبق الأصل، مختلفةً بعض الشيء، وناقصةً دائمًا. وكما هو الحال في اللغة، تحمل كل طبعة بقايا من الأصل، لكنها تُصبح شيئًا جديدًا. كل طبعة هي تذكيرٌ بما يُكتسَب ويُفقَد في عملية التفسير.

يرتكز هذا المسعى الفني على السيميائيات والتفكيك والدراسات الموسيقية لفهم كيف تصنع اللغة الهويات الثقافية، وكيف تتسرّب هذه الهويات بفعل محدودية اللغة. وبدمجها مع الأدب والأرشيفات الموسيقية والتاريخ الشعبي، تُبرز الطباعة على الخشب الكلمات المرتبطة بالصوت والمكان، حيث يتَشكَّل جوهر تعبير الثقافات عن نفسها. وفي زمنٍ تُهدد فيه العولمة بتسوية الاختلافات وتحويلها إلى نقاط التقاء، يقاوم هذا الجُهد الفنّي تلك الرغبة في التبسيط. بل يسلّط الضوء على الفجوات بين اللغات، وبين المعاني، وبين الثقافات. ومن خلال صور منقوشة على الخشب وبحثٍ دقيق، يُقدم العمل الفنّي – وهي وظيفة الفنّ – خريطةً عاطفيةً للهوية، خريطةً تدعونا إلى الإنصات عن كثب لما لا يُمكن قوله.

وربما، منذ ألف عام، التقت هذه الكلمات الثلاث في ليلة أندلسيّة، حيث اجتمع ثلاثة أشخاص تسامروا على أنغام الموسيقى. ولعلّهم رددوا هذه الكلمات معًا، ثم افترقوا، كلٌّ إلى لغته، واختلجه شعور بالحزن أو الفَرَح، ثِقلٌ في القلب، وردّد الكلمة التي ينتمي إليها، الكلمة التي تنتمي إليه، ولم يبذل أي جهد ليترجمها.

طباعة على الخشب – لين عثمان

سوداد

دويندي

طرب