كنا نريد شلالاً
كيف أعرّف عن نفسي؟ سوري. ماركسي. إبن الطبقة المتوسطة الدنيا، من خلفية دينية، سنّية، من قلب دمشق.. قد تبدو هذه الكلمات مليئة بالتناقضات، لكن الحقيقة هي أن التناقض هو المادة الخام لهويتنا في بلاد صارت خيباتها أكثر انسجاماً من شعاراتها.
كبرتُ في بيت محافظ يتوقّع منّي النجاح في الدراسة، والتديّن “ع الخفيف”. ولكنّي وقعت، في لحظة ما، في حب زياد الرحباني. استمعت إلى مسرحياته خلسة. كان زياد معنا. بصوته، كلماته، حنقه، سخريته، ومزاجيته…نردّد صوته دون فَهم، ولكن شعرنا أننا معنيّون.
ومعنيّون بالشبح الذي سُمّيَ الصراع الطبقي، لا فقط كأداة تحليل، بل كأداة توزيع للفن. في زمنٍ شكّلت فيه الموسيقى الكلاسيكية والجاز ومسرح “اللامعقول” ومسرح ما بعد الدراما، موادَّ تُعرَض فقط للنخب في بلادنا، وفي القاعات الفاخرة والكتب الأجنبية، جاء زياد لينسف هذا التمايز الطبقي من داخله. فحشَرَ موسيقى الجاز بين “عايشة وحدا بلاك” و”شو هالضيعة اللي ما فيها حدا بيركع”. لم يغنّ الشعر الحرّ في أمسية نخبوية، بل جعله حوارًا في “فيلم أميركي طويل”. أطلقَ الموشحات على الرصيف لتمشي جنبًا إلى جنب مع نكتة طائفية. وحوّل المسرح السياسي من منشور حزبي طليعي قومي، إلى قهقهة جماعية داخل مسرح مكتظ بالطلبة الجامعيين وأهل المدينة. ورغم كلّ هذا الانفلات، لم يسطّح زياد الفنون بل حرّرها. أعطاها للناس بلُغَتهم من دون المساومة على المضمون. بل كان يؤمن أن الذائقة يمكن أن تنمّى، ليس بالتلقين، بل بالتحريض والإشارة بالإصبع إلى التناقضات اليومية. كان هذا، بحد ذاته، موقفًا سياسيًا. موقفًا من الفن، ومن الجمهور، ومن فكرة أن هناك من “يستحق” الفن.
يتحرّك زياد الرحباني بين صورتين: الأولى، فنان ماركسي ملتزم، مُلهم لجيل وأكثر، وموسيقي استثنائي غيّر شكل الأغنية السياسية في المشرق. والثانية؟ طيف شخصية تغيب ثم تعود، مترددة أو متحفّظة، ونقيض جلادين حملوا شعاراته يومًا كأنها تراتيل. ومنذ اندلاع الثورة السورية، صار زياد مادة للجدل، لا بوصفه فنانًا حاضرًا، بل بوصفه غائبًا كبيرًا. صمته فُسِّر، تردّده أُوِّل، تصريحات هنا وهناك، ربما لم نكن جاهزين لها في ذروة الانفجار الشعبي وتصوراتنا عن ثورتنا.
لم يعد العتب مفيدًا الآن. ليس لأنه زال، بل لأن كل شيء يمكن أن نتجاوزه مع الوقت، ولأن من نعاتبه رحل. وما يُثقل القلب في هذه اللحظة ليس الخذلان، بل الفراغ الذي تتركه خيبة طويلة لم تجد لها خاتمة. ثم انسحب تدريجيًا، حتى تلاشى، ثم اكتفينا بأثره، كأنه ظلّ صوت لا نسمعه لكننا نحسّ به، لا يحضر في الموقف بل في الذكرى. نقول: ماذا لو كان زياد بيننا؟
لم ننتظر منه أن يكون قائدًا ثوريًا، لكّن الوجع تراكم عتبًا، ثم خيبة فتَعَب، ثم صمت يتحوّل إلى شعور بالرضى الحزين. رضى بواقعٍ يقول أن الذين أحببناهم لا يتفقون معنا دائمًا، وأن الذين أطلقوا وعيَنا لن يخوضوا بالضرورة المغامرة عنا. والآن، بعد رحيله، لم يبقَ شيء من الخلاف. لم يعد الموقف السياسي يعني شيئًا.
في كل ما قيل عن زياد، في مواقفه، في تردده، في صمته، في ظهوره الهامشي بعد أن كان في قلب الحدث، لم أكن أبحث عن إجابة واضحة. بل عن تماسّ حقيقي مع أسئلتي أنا، التي لا تشبه أسئلته دائمًا، لكنها في مكانٍ ما وُلدت من النص ذاته. أنا الذي تربّيت على التناقض. كانت خفّة زياد، وجرأته، وقدرته على طرح الأسئلة من دون السقوط في الشعارات، من أول الأسباب التي جعلتني أنتقل من مسار إلى آخر، من دون أن أعرف إذا كنت أهرب من شيء أم أركض نحوه. ربما لهذا السبب لا أطلب منه أن يكون ما أريد. زياد، ببساطة، كان هذا الذي لا يكتمل، لا يستقر، لا ينتمي كليًا لأي طرف.
في “شي فاشل”، يطلب المخرج نور من فؤاد “شلال”. يُحضّر فؤاد شلالًا. حقيقيًا. ماء يتدفّق. لكن نور يُجنّ: “مش هيك الشلال المسرحي!”
ونحن كنّا نريد شلّالًا، ماء يتدفّق. لكن من قال إن زياد كان يملك أكتَر من ذلك؟ نحن أيضًأ، لم نكن نملك أكثر.


