Who’s Your Daddy? أنا أشتري لك هذا العالم

هل كانت السّلطة دائماً تُغني “He loves me, he gives me all his money my sugar daddy”؟ في الواقع: نعم.
يُخبرنا تيك توك أن السلطة لا تصرخ في نشرات الثامنة لبث الذّعر ولا ترتدي ربطات العنق الفاخرة لكسب الإحترام، بل صارت نظاماً رمزياً يتم إنتاجه من خلال الترندات التي تعيد تدوير مفهوم “السلطة الأبوية” على شكل مقَاطِعِ مُفلتَرة Full HD. أغنية “شوكر دادي” التي راجت مؤخرًا هي دليلٌ إرشادي صريح حول أشكال السلطة الجديدة ومعاملات بيع وشراء الإنسان وآليات توزيع الرشاوى العاطفية.
يطلّ الشوكر دادي معلنًا صدور النسخة الأحدث من نموذج “الأب” الأصلي، “أشيـَبًا” بثرائه وسِنينه، يشتري مساحةً من حياة الآخرين بِلُغة المال والفُرص والوعود، يُقدّم “الحضن” والهدايا للنساء الأصغر سناً مُقابل العاطفة والرفقة والجنس، يستثمر في “ضُعف” النساء بعقودٍ غير مكتوبة، وأختامٍ على سندات الحرية، تِرياقًا لسِنٍّ متقدّمة وجَسَدٍ ذو احتياجاتٍ خاصة. هو ليس انحرافًا عن سلطوية النظام البطريركي، بل امتدادًا ناعمًا له، فيبقى الرجل في موقع السيادة الدائمة، والمرأة في موقع الخضوع والحاجة.
إذًا، آليات السوق الجديدة لم تدفُن البنية البطريركية بل قامت بتزيينها، ولم تحصل أي قطيعة بين البُنى التقليدية والمعاصرة. بل على العكس، فلطالما تلاقت الرأسمالية والفاشية على مفترق الرجعية لأنها من نفس الهوى، تصعد على مسرح التاريخ، تؤدي الدور ذاته بأقنعة جديدة، تارة كزعيم بزيّ زيتي، وتارة أخرى كشوغر دادي يوزّع الألوان والأموال.
العلاقة الجديدة بين السيّد والتابع نسخة محدّثة للعقد الاجتماعي القديم، وهندسةٌ بديلة للتّبعية تفرض على الضعيف التكيّف مقابل البقاء في دائرة الحياة. إذا كان الشوكر دادي يمنح الهدايا والمال مقابل الجنس والولاء للبعض، فهل هذا يعني أن باقي الفئات الإجتماعية مُتفلّتة منه؟ في حقيقة الأمر، لا. فجميعنا في علاقة مع صنف من أصناف الشوكر دادي، مقيّدون بعقد مشروط بنظام السوق، ومهما صرخنا أننا أحرار ومستقلّون، نُسارِع دوماً لتلبية رغبات السوق التي لا تنضب.
هذا الإرثُ العاطفي للسيطرة يجدُ صداه في الاقتصاد الحديث، في الرأسمالية كشوكَر دادي كَونيّ يُغدِق فقط ليُخضِع من خلال الغموض الأخلاقي للشركات الحديثة التي تستغل الأفراد في علاقات غير متكافئة… ومن خلال رأسمالية الاقتصاد الرقمي الذي يوهب عطايا، كالعمل عن بعد، من قبيل الكَرم والمرونة والعَطف. ويُشارك العمّال في الأنشطة في أوقاتٍ وأماكنَ خارج العمل الرسمي، ما يعمّق تغلغل النظام في الحياة الخاصة حتى غزا غُرف النوم حيث نعقد لقاءات عمل عبر تطبيق “زوم”. والمرونة هنا ليست مكسبًا منتزعًا بقدْر ما هي مسار نحو هيمنة مقنّعة، تُبرَم في ظلّها عقود عمل وقتية… زائلة.
وحتى نحن القابعون في قعر “العالم الثالث”، كما أسمَونا، ننشد شوكر دادي في حياتنا لنشعر بأننا على هامش الوليمة، نتوسّل فُتات الحلوى التي يوزعها في الضفة الأخرى. ندفع عرقنا زادًا للهجرة نحوه، مسموحٌ لنا بأن نحلم به، لكننا لسنا كلنا مؤهلين للوصول إليه. إنه يُديرنا “عن بُعد”…
يُخبرنا بيتر فليمينغ بأن الرأسمالية تتسِم بالتحوّل من البُنى الرسمية إلى بُنى غير رسمية تقوم على استغلال مستباح لإنتاج بنية أبوية قديمة برداءٍ جديد. وهكذا، ننتقل من الأب، الذي كان يمثل منذ آلاف السنين القوة الرئيسية المُنتِجَة ومالِكُ الماشية والعبيد، ورأس هرم العشيرة، باعتباره النظام الأول للسلطة الذي تفرعت منه باقي السُلطات، ننتقل إلى الشوكر دادي الذي يرهن الآخرين بماله وهداياه. الأول يقول: أنا جئت بك إلى هذا العالم. والثاني يقول: أنا أشتري لك هذا العالم.
اقتصاد الوظائف المرِنة أو الزائلة، الوظائف الحرّة، العمل عن بعد، والتوسّط الرقمي عبر المنصّات العابرة للحدود، كلها مفاهيمٌ حوّلت السوق إلى ساحة حربٍ وتنافُس بين القِوى العاملة على الفرص المتاحة من خلف الشاشات. والدفع نحو التحرّر من بيروقراطية الشركات لم يُؤنسن السوق بل جعله أكثر شراسة. فَقَدَ في ظله العمّال قدرتهم الجماعية على التفاوض، وصار كل فرد مسؤولًا عن مصيره الاقتصادي وذاتًا معزولةً تُصارع وحدها. هكذا يختار ربّ العمل – الشوكر دادي – بأريحيّة على من يُغدق بماله مقابل وقت وجهد، ومن يستبدله بكبسة زرّ.
علاقات الاقتصاد الحديث أكثر صرامة من سابقاتها، فهي لا تقدّم خيارات حقيقية بل تخدعنا بوَهم الاختيار الذي يرمينا دائمًا في أحضان صنف من أصناف الشوكر دادي. نشعر بأمان زائل، نخضَع بملء إرادتنا، نصبح شركاء في استغلال أنفسنا، نستنسخ بعضنا البعض، نولّد الثروة لمن هم فوقنا، نشكُرهم على النعمة، نشتري لهم العالم.

