هلأ بهيك جو لشو التصليح؟

لم يكد يرحل زياد الرحباني حتى عاد وحضر بغزارة عبر تسجيلات لأحاديثه، دعاباته، نكاته، سخريته، مواقفه، أغانيه، مسرحياته، عائلته، أصدقائه، مضيفيه في الإعلام… عودتُه المستحيلة من هناك لم تكن بناء على وصية أو طلب، إنما إصرارٌ من ظهرانيه على بقائه المستحيل هنا… “معنا”.

وهؤلاء كثيرون، كل منهم عبّر بطريقته عن “حزنه” على رحيل زياد، صدقًا أو تكلّفًا. لكن، في لحظة الوداع، لم يستطع أحد أن ينتزع من أحد هذا الذي رحل بثبات. وفي تلك اللحظة بالذات، نال حريته وانعتق من كل انتماءاته. فتناثر في أجواء البلد وعلى أراضيه.

هذا التناثر الذي يجسّد حالة حضور وغياب، يذكّر بما فعله توماس فان هاسبروك في فيلم “توتو البطل” (1991، Toto le héros، للمخرج البلجيكي جاكو فان دورمايل).

عاش توتو حياة متعثرة تخللتها مآسٍ وخيبات نتيجةً لاعتقاده الراسخ منذ طفولته بأنه استُبدل في المستشفى بجاره فينسان الذي حظي بالعيش في كنف عائلة كَانْتْ المُترفة. وبسبب عقدته هذه، راح توتو المَكفي الحال يبحث عن نسخة محسنة من حياته، وينشد الحرّية والانعتاق من هوسه، ولكن بطريقة غريبة جدًا. فوفقًا لخطة محكمة وضعها، وقف توتو مكشوفًا أمام نافذة محل فينسان، وتلقى رصاصة نيابةً عن الأخير فأردته… هو الذي طالما بحث في الموت عن معبر إلى حرية فريدة من نوعها: كان توتو أوصى بإحراق جثته وذرِّ رمادها في الجو فوق الأرياف والمدن… وكمْ كان فرحه عظيمًا بينما كانت تتساقط ذرّات رماده من على طائرة زراعية، وكل ذرّة منها تهبط وهي تضحك. وعندما بلغت الأرض والأسطح، راح توتو (المبعثر) يمنح المسرّة للكائنات التي هطلت عليها ذراته.

بالمثل، تمنحنا تسجيلات زياد الرحباني عبر السوشال ميديا المسرّة، قبل أن تحل علينا وطأة غيابه بكامل ثقلها. هذه الكثرة من التسجيلات هي بمثابة ذرات رماد الرحباني التي هطلت علينا. وللمرة الأولى لا أنزعج من دأب الخوارزميات على دحش كل ما يتعلّق بزياد في النيوزفيد خاصتي. ولن نعرف إذا كان زياد فرحًا بعبثنا في “رماده”، مثل توتو، فلا تسجيل لهذه الحالة.

يتشابه الرجلان توتو الشخصية المتخيّلة وزياد الشخص الحقيقي في أنهما بطلان. كلاهما واجه المآسي والخيبات في حياته بصلابة وسخرية. وكلاهما يسّر مجيء الموت إليه، فاستعجله كخيار لنيل الحرية لا كمفرّ من الحياة: توتو لما قرر التخلص من نفسه بدلاً من جاره اللدود، وزياد لمّا قرر وقف العلاج ضد الداء العضال… “أنو شو بقيان أعمل هون أنا،” كلام لم نسمعْه يقولُه.

والحق أننا، بسبب غيابه النهائي، لن نعود نسمع منه ولا عنه أي شيء جديد غير تسجيلات مكررة وتسجيلات لم تُنشر بعد أو أخبار يصيحها كل من يتفطّن فجأة لموقف أو حديث فاته أن يكشفه في حينه. صيحات تشبه صيحات الثكالى المتقطّعة أثناء العزاء… ثم سيخفت كل شيء تدريجًا، حتى الخوارزميات سوف تستغرب انحسار ضخ المحتوى عن هذا الإنسان الذي استطاع ببراعة كاتب وموسيقي فذ أن يُخرج دواخلنا إلى العراء وبكل سهولة، كأنه يقلب فردة كَلْسات.

أخرج سيئاتنا فكيف عالجناها؟ لم نفعل. وكيف نعالجها؟ على هذا السؤال، هو يجيب “هلأ بهيك جَوّ لشو التصليح؟”

وهي جملة خلص إليها زياد بعد حديثٍ مع جزّار الحي الذي أصر على أن أم زياد فيروز تلحّن وأباه وعمّه عاصي ومنصور يغنّيان. بقي زياد يساير الجزّار في حديثه بجدية رغم المغالطات. ثم خلص إلى القول “هلأ بهيك جو لشو التصليح؟” وأضاف “المهم النتيجة يا اخوان.”

كان زياد خبيرًا في النفس البشرية (اللبنانية على وجه التحديد). “اللبناني مخّه معكوف. يتلقى إشارات من الأرض… وبْيِفرد”.

“بيفرد” تعني يتفرّد وينفرد فلا ينجمع. وبموجب هذه المعادلة، اللبناني لا يصبح جماعة.

ومن يغوص في التفكير بالمعادلة إياها، يجدها بقوة أحجية زِنْ بوذية، بدعوتها إلى التأمّل في ما تنطوي عليه من صفات وتصرّفات ونفسيات وعقليات شعب. ويَثْبت هذا التشبيه عندما يرد رشيد – في “فيلم أميركي طويل” – يردّ الجماعة إلى أفرادها، في قوله: “19 واحد هم واحد وواحد وواحد… حتى 19 واحد.” هنا، العدد لا يدل على المجموع، لأن الفرد بقي فردًا (واحد).

وماذا فعلنا، وخصوصًا نحن مجايلي زياد الذين تلقفناه من بدايته، حيال عسر الانجماع وعواقب الفشل في تأمينه؟ لا شيء.

افتتنا بنصوص زياد الممسرحة والمغنّاة وشخصيته الفريدة وضحكنا لشدة طرفه. استهلكناه كمنتج. قلّدناه في أسلوب تكلّمه وأساليب تكلّم شخصياته. ضحكنا على أنفسنا حين سخر منّا. شرّحنا وقدّم عنّا صورًا ليست جميلة.

ثم عبر المرايا النفسية والاجتماعية التي صنعها لنا لكي نتفرّج على أنفسنا، تبيّن أننا كنا نرى فيها غيرنا (الآخرون)، لأننا أضعف من أن نواجه ذواتنا. فبمواجهة ذواتنا نتوخى الشفاء من عللنا، ونشق طريقنا، أفرادًا وجماعات، نحو تغيير مأمول.

إلاّ أننا اكتفينا بالضحك بسبب فرادة زياد و”هضمنته”.

وفي عمليه الأخيرين، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” و”لولا فسحة الأمل” رأينا صورًا عنّا، أفرادًا وجماعات، أشد قبحًا وخطورة مما هي في أعماله الأولى. ولم نبذل أي جهد لتحسين أصول تلك الصور.

زياد لم يكن قائدًا ثوريًا في حزب ولا مُصلِحًا يرأس جمعية. هو إنسان أنتج نصوصًا وألحانًا تتأمّل واقعنا، بلغة بسيطة ومفهومة، وتخترق حقائقه وتكشفها، وتاليًا تيسّر لنا معرفة ذواتنا والتوصل إلى تماهيها مع ذوات الآخرين، لو نوينا على التقارب:

“معك ليرة بتسوى ليرة”، “الزودة الطلعِت عندي وعندك لا بتكفيني ولا بتكفيك”، جملتان في أغنية واحدة تشيران إلى القواسم المشتركة التي تدعونا كلبنانيين إلى الانجماع، لولا تشبّثنا بانتماءاتنا الطائفية… ولذا، جاءت الخلاصة في جملة “عنّا حرّية… أجلك” تحقيرًا لصنف الحرّية المكبّلة والمشروطة في لبنان.

مقولة تعلّم العلمانية من التاجر، يتوقف صوابها أو بُطْلها على الزاوية التي تنظر منها إلى التاجر والتجارة. ولا تشير بالضرورة إلى أن التجارة أمر سيئ، إذا غصنا في دلالات المقولة. وبرأيي تحمل حلاً للتشرذم اللبناني ولو كان بفضل التجارة. “المهم النتيجة يا اخوان… ويا رفاق،” كان ليقول لنا.

مهيب مدرب الرقص، في “شي فاشل” اشتهر بتهديده ووعيده لأحد الراقصين: “ما بيكون اسمي مهيب اذا بخليك تفشخ فشخة بعد ابو خضر.”

في ذلك العمل، مهيب يقطن في المنطقة الغربية لبيروت، وأبو خضر سناك سندويتشات يقع عند تخومها مع المنطقة الشرقية. هل سجّلنا، كمتفرّجين أو سامعين، وجود مهيب شرير عند كل خط تماس بين منطقتين ومن جهتيه؟ لم نحفل بذلك، كنا نضحك فقط.

نزار الناشط اليساري المهووس بدقة معلوماته في “فيلم اميركي طويل” حول وقائع الحرب الأهلية، يجد نفسه جاهلًا تمامًا بما يحدث، ويكاد أن يصبح كالحاجّة جارته التي لا تفقه بالسياسة. والحاجة هي نموذج عن اللبناني الذي تبيّن بالفعل أنه لا يمتلك حقيقة ولا قرار.

كنا لنأخد تلك النصوص، من دون إذنٍ من زياد فهي لمّا شاعت على ألسنتنا صارت ملكنا. لكننا اكتفينا بتردادها ضاحكين وغير آبهين بقيمها وأوزانها.

فضّلنا أن نخوض التغيير باستلهام تعاليم هيغل مع هرمه المقلوب وتعاليم ماركس الذي جلّس الهرم، على أن ننطلق نحو تصليح أنفسنا أولاً، عبر مرايا زياد الرحباني الصقيلة.

دعونا لا نحمل همّا، فزياد سبق له أن سرّب لنا الجواب، وهو: “هلأ بهيك جو لشو التصليح؟.. المهم النتيجة يا اخوان.” 

لكنْ، لا نتيجة لأن زياد، مثل زكريا، كان على يقين أن “تاريخنا ناطر كف من غيمة!”