الإهانة

“فلتكنْ حرب أغاني
بالأغاني… سوفَ أغتالُ أغانيكم
جميع الكذبِ فيكم
بالأغاني”
-راشد حسين- قصيدة بالأغاني
همٌّ على صدري
ما الذي يدفع المحرر، وما رغبته، في أن أكتب عن هذه الصورة؟ منذ أن رآها، طلب مني مرتين أن أكتب عنها. لكنني تراجعت، لأني لم أستطع أن أجد سببًا مقنعًا يفسّر إصراره. هو هناك، بعيد–قريب من فلسطين. يعيش في لبنان. ولا أعلم إن كان حقًّا يعرف، ويفهم، ويشعر ما معنى أن تكون لاجئًا في وطنك. أن تكون ليس فقط محتلًا، بل مستعمَرًا، وخاضعًا لاضطهاد يومي ممنهج، يطالنا فردًا فردًا، على يد المستعمِر، يشرف عليه جهاز مخابرات يُسمى “الشين بيت”، اختصارًا لاسمه العبري: “جهاز الأمن العام”. يسيطر على مفاصل حياتنا، كل ثانية، كل دقيقة. يهندسها، يدوّن كل شاردة وواردة في حياتنا وحياة أبنائنا وبناتنا.
انشغلت بهذه الأسئلة بدلًا من الانشغال بتاريخ الصورة ومعناها. انشغلت بكل ما يدور في فلكها. وأعترف: أنا أكره الكتابة عن الأشياء وتحليلها. ولست جيدًا في هذا “الكار”.
ماذا رأى المحرر في الصورة؟ ماذا فهم منها؟ ماذا أخبرَتهُ عنّا، نحن أهل فلسطين، الذين اختصرَنا العرب –كلُّ العرب– بِرَقم، مسبوقٍ بكلمة “عرب” أو “فلسطينيون”، أو لعلهم أحياناً استخدموا الوصف الصهيوني: “عرب إسرائيل”، بدلًا من الرقم 48 مضافاً إلى الصفة. والحقيقة المُرّة أننا لسنا رقم 48، بل نحن فلسطينيو فلسطين. والحقيقة الأشد مرارة أن بيننا من صار فعلًا “عرب إسرائيل”، ولعلّهم الأغلبية الساحقة، يهرعون إلى التعريف “الوطني”، أي “48”، ليغطوا عورتهم السياسية والثقافية.
انشغلتُ بهذه الأسئلة، بدلًا من الانشغال بمكانة الصورة في وعي أهالي قريتي –المشهد– التي صارت، منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، معروفة بينهم. وحتى اللحظة، لا أستطيع أن أصف، أو أفهم، أو أشرح ردّ الفعل أو الانطباع الذي تركته هذه الصورة –التي لا دخل لهم بها– في نفوسهم وإدراكهم.
لكن ما أعرفه جيدًا، هو أنه ما مِن أحد في قريتي، كبيرها و صغير، إلا علت وجهه ابتسامة ساخرة كلما ذُكرت الصورة.
الإلحاح
صدر العدد الذي كان من المفترض أن أشارك فيه، ولم أكتب سوى سطرين لم أعد أعلم أين حفظتهما ولا ماذا كتبت فيهما. أطلت المماطلة مع المحرّر، رغم أنني لست من جماعة المماطلين، فشعرت بالإحباط من هذا التصرف. لكن، في الوقت نفسه، شعرت بالراحة: تخلّصت من مهمة لم أكن أملك القدرة على إنجازها. وصدر العدد… من دون مساهمة نصّية منّي.
يعد أيّام على صدور العدد، اتّصلَ المحرّر بي من جديد ليذكّرني بإصراره على الطلب: أن أكتب عن تلك الصورة. وعدته أنني سأكتب، رغم نفوري العميق من الفكرة. فأنا أكره أن أكتب “عن” شيء، لأني لا أكتب عن الشيء، بل أكتب الشيء نفسه.
هكذا كتبتُ فلسطين. خلال رحلاتي فيها، وعبر صناعة أفلامي، أردت أن أقول: “أنتم تكتبون عن فلسطين، وأنا أكتب فلسطين”. فلا يمكن لفلسطيني أن يكتب “عن” فلسطين دون أن يتحوّل إلى غريب عنها، إلى “الغريب”. “الكتابة عن فلسطين” هي صنعة من لا يعرفها، أما أبناء وبنات فلسطين، فيكتبونها. يصوغونها ويعيدون تشكيلها بصراعهم مع أعدائهم، ومع طبقتهم، ومع بيئتهم، ومع العالم.
وربما حان الوقت للكتابة عن هذا الموضوع تحديدًا. فنحن نعيش زمن “التسيّب” الثقافي، زمناً يتصدره “المثقف” و”المفكر” و”الناقد”؛ أولئك الذين يقيّمون كل شيء في بلادنا –من السينما، إلى الأدب، إلى الطعام، إلى السياسة– يحدّدون فلسطين ويعرّفوها من خلال من كتبوا عنها وليس من كَتَبوها، فتغرّبت عنهم واغتربوا عنها ودخلوا نادي “الغريب”.
لكنني وعدتُ المحرر أنني سأكتب.
إذن، سأكتب.
ها أنا الآن أجلس أمام شاشة حاسوبي، وبجواري قلمي وورقتي. فلا أستطيع أن أكتب إلا بقلمي، وعلى ورقتي، ثم أنقل ما كتبته إلى الشاشة.
سطّرت أولًا عنوان النص: “الصورة”.
وعجبت من أن هذه اللحظة، هذه المرة، بدأت فيها الأشياء والمشاعر والإدراك تتحوّل من صور وحدسٍ إلى كلمات وتعابير. تشابكت رغبتي في كتابة فلسطين، مع نفوري من الكتابة عنها، مع دوافعه (المحرّر) ودوافعي، حتى فهمت، وأدركت، وغيرت العنوان.
لم أعد أكتب عن “الصورة”… بل عن الإهانة.
البداية… أو “ما أصعب الاعتراف بالإهانة”
أعمل منذ أكثر من سنتين على مشروع لكتابة قريتي – المشهد – عبر إنتاج سلسلة أفلام ووثائقيات ومستندات تاريخية توثق حياة أهلها وذاكرتهم. نُشرت هذه المواد على صفحة خاصة في “فيسبوك” وقناة “يوتيوب” تحت عنوان: “عين على المشهد”، وعُرضت خلال شهر رمضان الماضي في وقت محدد، تمامًا كما تُعرض المسلسلات الرمضانية.
حملت الحلقة الأولى عنوان “البلد”، وتحدث فيها بعض من أهل قريتي عن المرحلة الممتدة بين ليلة الاحتلال الصهيوني للمشهد وأواخر سنوات الخمسين. أنهيتُ الحلقة بصورة شمسية، التُقطت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، تتوسطها إحدى وزيرات “إسرائيل”.
طلبتُ من المحرر أن يشاهد ويتابع الحلقات، رغبةً مني في معرفة رأيه بهذا العمل التجريبي – عملٌ اجتماعي، سياسي، مستقل تمامًا، لا يمتّ لأي جهة ممولة أو مؤسسة بصلة. عملٌ ينبض بحياة طائفة صغيرة من الفلسطينيين الباقين في فلسطين، أبناء قريتي “المشهد”، حيث أعيش معهم حياتي اليوميّة.
لكن ما شدّه تحديدًا كان الصّورة.
الصورة
منذ نعومة أظافري، وأنا أسمع أن “غولدا مئير”، رئيسة حكومة “إسرائيل” لاحقًا، زارت قريتنا “المشهد”، وأن “ستَّك نَصرة” – جدتي، أم والدي – “تصوّرت معاها”. أخبرتني أمّي أنَّ والدي يحتفظ بالصورة، ما جعلني أظن أنه هو من التقطها لها، فهو كان يهوى تصويرنا – نحن عائلته، أولاده، إخوته، وأقاربه جميعًا. كان يستعير كاميرا صديقه الحميم “جلال دعاس” من الناصرة في مثل هذه المناسبات.
لم تثر هذه المعلومة في نفسي أي فضول، إلى أن أصبحت تلك المرأة رئيسةً لحكومة إسرائيل عام 1969 (وبقيت في المنصب حتى 1974). كنت آنذاك في التاسعة من عمري، وفجأة عاد الحديث في بيتنا عن تلك الصورة، التي لم يكن يملكها سوى والدي.
كنت أنا وابن عمي سعود الحفيدَين المفضّلَين والمدلّلين لستّي نَصرة، لذا كنّا نجرؤ على ممازحتها وإغاظتها. فاستغلّينا حديث العائلة عن الصورة واقتربنا منها ضاحكين:
“ستي… إنتي تصوّرِتِي مع جولدا مئير؟”
لم نكد نُنهي الجملة حتى ثارت. صرخت في وجهنا بعنف، ولو استطاعت أن تمسك بنا في تلك اللحظة لعاقبتنا عقابًا شديدًا. بعد تلك الحادثة، قاطعتنا جدتي لأسابيع، وربما لأشهر.
وهكذا أصبحت هذه الصورة سرًا من أسرار العائلة العلنية. الكل يَعرِفها، لكن لا أحد يجرؤ على ذكرها أمام جدتي نصرة.
توفيت جدتي في أواخر السبعينيات، ولم تعرف شيئًا عن الثورة الرقمية، أو الحاسوب، أو وسائل التواصل الاجتماعي. لم تعرفني سينمائيًا، أو كصانع أفلام، رغم أنني في أوائل التسعينيات أنجزت فيلمًا عن عائلتي، وكان فيهِ قسمٌ للبحث عن صورة جدتي مع غولدا مئير.
بدأت بسؤال أمي، فأخبرتني أن جدتي مزّقت الصورة بعد أن كنا نعيّرها بها. سألت أحد أقاربي، وهو من أولئك الذين نلقبهم بـ”أبو العُريف”، فقال إنهم اختاروها لأنها الوحيدة في القرية التي كانت تلبس الجوارب مع الحذاء.
فتّشتُ في أرشيف المستعمِرين، ووجدت الكثير مما كتبوه عنا، وما كتبناه نحن عن أنفسنا – ما أسميته في إحدى محاضراتي عن الأرشيف الفلسطيني:“ما كُتب بخط يدهم” – أي وصفهم لنا، ونظرتهم إلينا، و”ما كُتب بخط يدنا”– أي ما وثّقنا به حياتنا، نشاطاتنا وأمانينا ورغباتنا وأفكارنا وحزننا وجوعنا.
لم أجد تلك الصورة اللعينة.
عدت في ساعة متأخرة بعد يوم تصوير طويل، مرهق، وقد كنت على وشك إنهاء مرحلة تصوير الفيلم. في الصباح الباكر، طرقت أمي باب شقتي – وكنت أعيش وحدي فوق شقة والديّ – وفي يدها الصورة المنشودة، تلكَ التي ترونها الآن مرفقةً مع هذا النص.
صدمتني الحقيقة التي ظهرت مع الصورة. فالصورة لم يلتقطها والدي كما ظننت، بل مصوّر صهيوني من مكتب الإعلام الحكومي. ولم تكن جدتي وحدها فيها، بل كانت ضمن مجموعة من نساء قريتي. بالكاد استطعت تمييزها خلف كتف تلك المستعمِرة البيضاء، وكانت يومها وزيرة الأشغال العامة.
ولم تكنّ أي من نساء قريتي حافية القدمين سوى واحدة. وكانت المفارقة أن قدمَي جدتي لا تظهران: لا حذاء، لا جوارب. تمعّنتُ بالصورة، وسمعت أمي تقول إنها وجدتها مخبّأة بين أغراض والدي.
تأملت وجوه النساء واحدةً واحدة.

ليست بينهنّ واحدةٌ تنظر إلى هذه “الوزيرة” التي جاءت لتحتفل معهنّ بشقّ وتعبيد شارع يصل قريتي المشهد بالشارع العام الذي يربط حيفا بالناصرة وطبرية. جميعهنّ يشِحنَ بنظرهنَّ عنها. إلا واحدة… امرأة مليئة بالحيوية والمرح، فمها ينقصه بعض الأسنان، تنظر إلى الوزيرة بسخرية واستغراب.


أما هي – الوزيرة – فتقف وقفة المنتصر.
كل النساء خلفها، لا أحد إلى جانبها، فيما هي تنظر مباشرة إلى عدسة الكاميرا، بحزم وفرح.
الضائقة
في المرّة الأولى التي طلب فيها المحرر أن أكتب عن الصورة، تبادرت إلى ذهني فورًا لوحة “العشاء الأخير” لليوناردو دا فينشي.
المسيح في وسط الطاولة، وتلاميذه حوله في فوضى وارتخاء، على عكس ما طبعته في نفوسنا الرواية الدينية من خضوع وخنوع. وضعتُ الصورتين جنبًا إلى جنب، صورتنا وصورتهم، وفجأة… ضحكت. ثم غضبت.
أنا لا أُجيد إسقاط التراجيديا على ما ورائيات نفسي وأفكاري، بل أكره هذه الجملة. لا مجال للمقارنة. فأنا أعشق ألوان لوحة “العشاء الأخير”، بما تمثّله من عمل فنّي جماليّ وتجسيد أسطوري صار حقيقة في عين المؤمن. أما صورة جدتي، فهي ليست أسطورة، بل هي بالنسبة لي كلّ شيء، هي مصيري.
الآن فقط، وأنا أكتب هذه الكلمات، أستطيع أن أفهم الحدس الذي دفعني لأن أختم بهذه الصورة الحلقة التي عنونتها “البلد”. هذه الصورة أراد “المنتصر” المستعمر أن تكون أيقونة وَعيِنا، مرآة إدراكنا لأنفسنا، حتّى نتصرف كأنّنا تابعون له وأقل منه شأنًا. لكني بها أردت أن أقول لأهلي، وبالشكل الذي ظهرت فيه في الفيلم: هذه الصورة إهانة.
هكذا رأتها جدتي، ولهذا رفضت حتى الحديث عنها. لم تستطع تحمل الإهانة، لكنها لم تخترها، بل فُرضت عليها. وأنا، حين أمعنت في الصورة، رأيت سخريتهن من المصوّر. لم ينظرن إلى الوزيرة، لم يلتفتن نحو عدسة الكاميرا. أما هي، غولدا مئير، فبقيت وحدها في المقدمة، بزيّها الكولونيالي، لا يعنيها إلّا أن تتصدر المشهد كسيّدة منتصرة، وخلفَها نساء قريتي بزيّهن البلديّ الفلاحي، كخادمات المزارع في أميركا وجنوب أفريقيا.
في المتحف
لم أبحث على محرك البحث فقط عن لوحة “العشاء الأخير”، بل نبشت صورًا ومستندات عن غولدا مئير. وجدت موقعًا بالعبرية لمتحف صغير يحتفظ بمتعلقاتها وذاكرتها. في أسفل الصفحة، ظهرت الصورة في وضعيّة مضحكة. لكن، حين عدتُ إلى الصفحة من جديد بعد نحو شهرين، كانت الصورة قد “عُولجت”، ووُضعت في إطار أفضل، مع الإبقاء على الوصف فوقها كما هو: “زارت غولدا مئير قرية المشهد سنة 1953 بمناسبة افتتاح الشارع الرئيسي”.
أما في ذيل الصورة فكُتب: “أهدانا هذه الصورة السيد سليم (…) مذيع راديو…”.
صُعقت. إنها الصورة التي تحتفظ بها والدتي. وسليم هو خالي، أخوها. كيف يجرؤ؟ كيف يهديهم نسخة منها؟ كيف؟!
قررت أن أصرخ في وجهه حين ألقاه. وفي العيد، حين ذهبتُ لزيارة والدتي لمعايدتها، كان خالي جالسًا عندها كعادته. حيّيته، ثم انفجرت في وجهه: “كيف تعطيهم هذه الصورة؟ ولماذا؟ لماذا تأخذ نسخة منها وتعطيهم إياها؟!”
ثم صمتُّ.
كان يعرف سبب غضبي. تسليمه الصورة لهم كان بمثابة إعلانٍ منه بقبول الإهانة – إهانتنا – كشرط لوجوده/لوجودنا هنا في وطننا. خياران: الإهانة أو القتل.
حينها، فهمت. هكذا اخترعوا “عرب إسرائيل”. وهكذا امتدّت الفكرة، وصاروا عربًا موزّعين على الخريطة في دول مختلفة، من المحيط إلى الخليج.

