ماذا لو لم يكن اسمه اندراوس؟

لم يرتكب اندراوس خطأً يضطرّه إلى تصحيحه بأن يبدأ حياته من جديد… يكررَها كمحاولة ثانية محسّنة. الأخطاء لم تعد تُشعره بالذنب ولا بالندم على ارتكابها، مهما بلغت درجة فداحتها أو تفاهتها.

لسبب ما، اكتشف أنه لم يكن هو عندما اقترفها في السابق. كان شخصاً آخر اسمه هو هو… اندراوس، لكنه مختلف جدًا عن اندراوس الجديد الذي تمنى أن يكونَه: نقي، نزيه، صريح، فج، ساذج، أبله، مباشر، طبيعي، سجيّ… لم يستطع التحديد عندما ضاءت لمبة الأفكار فوق رأسه.

هكذا، وهو في طريقه نحو سنه السابعة والستين، تبيّن له انه عاش ردحًا من الزمن كان طواله خطأً شائعًا؛ اندراوس بشخصه خطأ شائع. فتمنى تصويبه وقرر أن يبدأ حياته من جديد، بحثًا عن شخصه الصواب، وكان بلغ قعر إحباطه.

إحباطه نابع من تشبّعه بالظُلم والعبَث في هذا العالم. وكان يتمنى لو يتحلّى بالتفاؤل الذي كان مُفعمًا به كانديد الشخصية التي رسمها فولتير في روايته الشهيرة منتصف القرن الثامن عشر… فبعد كل ما عاينه وعاناه ذلك الشاب الساذج من أهوال ومآسي، خَلُص في النهاية إلى أن “علينا أن نزرع حديقتنا”، لكي ينغمس الفرد في شؤونه الخاصة، ويعمل بحسب قدرته، وينأى عن الملل والرذيلة والعوز.

لكن “حديقتَنا” تلك، في عصر اندراوس، اندثرت لتعارُضها مع مجتمع حديث يبجّل الاستعراض والسرعة والتشتت، ويمعن في تخليق المآسي.

وفي غياب “حديقتنا” تلك، تشتت اندراوس. ولكي يستجمع نفسه تشبّث بفكرة أنه خطأ شائع وانبرى يعالجها.

فإذا صُحّح الخطأ الشائع يصبح صوابًا. أوكي! هذا هيّن في اللغة، ولكن هل يصح تطبيق عملية التقويم هذه على إنسان اكتشف نفسه خطأً شائعًا؟ وهل يصبح صوابًا ويستقيم وجوده؟

كعادته، جلب اندراوس لنفسه شغلة بال جديدة، ثم انهوس بها… كعادته! 

كتب على ورقة بقلم رصاص “قعر الإحباط”، ووجد أن ما كتبه صائبٌ ورضي به. فالعبارة “قمة الاحباط” الدارجة هي، برأيه، خطأ شائع بسبب التناقض الذي تنطوي عليه، إذ تجمع أعلى وأسفل معًا. وفي هذا الجمع استحالة بمقدار ما في صدر بيت المتنبي “مِكرّ مِفرّ مُقبل مُدبر معًا…” من استحالة لتحقّقه واقعيًا، إلا في التهيؤات.

أسند أندراوس ظهره على ظهر الكرسي ثم شعر بنشاط يدب في جسمه وبجذوة في عقله تستعيد توهّجها، بعدما كادت أن تنطفئ ربما بسبب تقدّمه في العمر، أو لاعتقاده طويلاً بأنه هو من ارتكب أخطاءه: الكذب والخيانة والقتل والسرقة والتحيّز والتخاذل والسخرية وغض الطرف والطأطأة والتنمّر والسكوت والاحتلال والسلبطة والغدر والتسليم والمعصية… وغيرها الكثير، إلى درجة انه لم يعد قادرًا على تحمّلها. 

عندها، قرر أن يبدأ حياته من جديد بكل ما في هذه العملية من عذاب وألم. ولكنه، بدلاً من الانغماس في عملية مونتاج لأخطائه كادرًا كادرًا، وقد يستغرق الأمر وقتًا أطول من عمره المتبقي، انصرف إلى معالجة وجوده من أساسه، في محاولة للوقوع على العلّة الأولى التي جعلت منه خطأً شائعًا. 

وإذ بلغ هذه العتبة، تذكّر أن سبق له التطرّق إلى مسألة البدء من جديد، منذ “انقذافه” إلى الدنيا، من دون أن يتوصّل إلى خلاصة، فلربما حان وقت الخلاصة الناجعة الشافية.

وها هي كلمة “انقذاف” تعود إليه مع قرينتها “عبثية”: الانقذاف إلى الحياة ثم التدرّج نحو الممات في مسار عبثي أحادي الاتجاه؛ والانقذاف مرادف لـ اللاعودة (تولد ← تموت).

وأدرك أنها ليست المرة الأولى التي يحوم فيها حول مسألة بدايته كمخلوق، إلا أن دافعه الآن مختلف: الرجوع إلى أصل العلّة.

هذه المرة، يعود اندرواس إلى حقبة، قاربها من قبل، تبدأ من لحظة حضوره إلى الدنيا صارخًا وتنتهي ما قبل تشكّلِ انتمائه.

أي، منذ صراخه كدليل دامغ على أنّه حضر إلى الدنيا، قبل الاسم والحسب والنسب والعائلة والدين والبيئة والبلد والكوكب… وحتى ما قبل ارتهانه إلى راسمي مسار حياته: ولي أمره وراعيه ومموله وحاشِيه بغذاء الجسد وحاشِيه بغذاء الروح.

وهي الحقبة التي لا يكون فيها العالَم قد قال له بعد من يكون. تشارلز بوكوفسكي طرح عليه هذا السؤال، وكان اندراوس بالفعل يجهل تمامًا من كان قبل ذلك. 

الآن، أدرك اندراوس أنه كان إنسانًا نقيًا غير ملوث بالمبادئ والمفاهيم والأفكار التي تشرّبها بفطرته فشكلت له الحقيقة، الحقيقة المطلقة. فراح يضرب بسيفها، مَدينًا بذلك لراسمي مسار حياته.

ثم اصطدم بضاربين بسيوف حقائق أخرى. إذًا، هناك حقائق غير حقيقته. ضاع بين الحقائق. أصيب بصدمة. ولم يقوَ على التشكيك بحقيقته فهي راسخة في نفسه مثل الـ DNA التي تشكّل كيانه المادي. فإذا شكك بالـ DNA أو أدخل عليها تعديلاً يموت أو يتغير ولا يعود هو، يصبح آخر.

ثم أيقن أن كل ما غذّاه به راسمو مساره إنما هو دَين عليه… سلفة يجب أن يسدّدها لهم مدى الحياة ولو بالتقسيط، رغم كل الحنان والعاطفة والمحبة المجانية التي ساهمت في ترسيخ شروط انتمائه. يعني أن الذي يتجاوز عتبة الانتماء يكون مرتهنًا لهؤلاء الذين شكّلوه.

لعلّ الانتماء هو العلّة الأولى التي جعلت منه خطأً شائعًا عصيًا على التصويب. جعلت منه وأيضًا من كل من داكيلا، هيناتا، جينغ، راهول، فالوديا، ايسفاندار، هوري، صهيب، بيار، فلافيو، ديميتري، اسبيرانسا، دولوريس، أستريد، غاييل، فينلي، سلون، تهويهرون، توباك، أهويك، إيللوكا ونحن أخطاءً شائعة…  مهمتنا أن نتغاضى عنها!

لم يوفَّق اندراوس في مسعاه. عجز عن تصويب نفسه. وبقي وأمثاله شائعين ككل الأخطاء الشائعة. تعوّدوا على وجودهم هكذا، تعوّدوا على أن ينقادوا خلف راسمي مساراتهم. 

سلّم اندراوس بمصيره وتابع حياته.

أخيرًا، كفى سوداوية. انقذفنا ولن نعود. فلنكمل مسارنا بطيبة خاطر!