خمسة، أربعة، ثلاثة، إثنان، واحد
أكشن!
"خيط حرير على حيط خليل، خيط حرير على حيط خليل، خيط حرير على حيط خليل" وهكذا، بقي يرددها بهوس حتى انعقد لسانه. مضى أسبوعان على الزيارة الأخيرة لمصلحة جباية الضرائب منزلَه: "أعدكم، كل المستحقات المتوجّبة عليّ سوف… قريبًا… سأفي ديني للدائنين قريبًا، سوف أفعلها، سوف أحاسبهم جميعًا،" قالها بدناءة وعاد ليلتحق بغيابه. بات وقته الضئيل أضيق من الخطيئة، وحان وقت التنفيذ. تجرع كأسه الأخير من زجاجة ويسكي رديئة ضربة واحدة، أغمض عينيه لبرهةٍ، عَقد أفكاره بإحكام كمن يربط شريط حذائه قبل أن يخرج إلى الصيد وتوجه نحو المطبخ. تصفح رزنامته المسنودة على الحائط المسنود بدوره بلوحين ضخمين من الخشب العتيق ليسجل في ذاكرته موعد خروجه: الخميس - 1 نيسان - 2005 ثم، اقتطع الورقة وقرأ ما ورد على ظهرها: "ما يجعل الكذبة حقيقة هو الخطر الداهم الذي تبغي أن تتجنبه، وهو في أحسن الأحوال كذبة خطيرة جديرة للتصديق". ضحك هستيريًا، تحسس خصره وخرج مهرولاً.
-"هئ إحم! حبيبتي، هل يمكنك أن تلقي نظرة سريعة للتأكد من أنه ليس من بقايا خس عالقة بين أسناني، بليز؟ شكرًا. أنظري إلى نفسك كم تبدين جميلة! امممم، كانت قطعة لذيذة جدًا من الستايك، إيه؟ كم أتمنى يا حبيبتي لو بوسعي أن أذوب وإياك الاَن هنا، في هذا المطعم الفاخر تحديدًا، ونضمحل في الحب سويًا إلى الأبد. (Maître تعال، تعال) هيا... افتحي العلبة بايبي، افتحيها. هاهاها، هل أعجبتك؟ دعيني أضعها على عنقك، إنها قلادة ثمينة من اللؤلؤ التي..."
تشِك شِك، طوب طوب طوب طوب طوب… "يا له من وقت رائع تمضونه أليس كذلك؟" اقتحم المطعم فجأة وراح يطلق النار عشوائيًا على كل من في الداخل. لسانه الغارق في لعابه المتعطش للدم عاد ليُعقد في كل مرة يتفوّه بها بِـ "خذ". "خُذ" يصوب مباشرة على الرأس، طوب! "خذ! العائلة جميلة هاه؟ هل قلت أن القلادة ثمينة؟ خُذ" طوب! طوب! "تريدون أموالي لتكدسوا ثرواتكم المتراكمة فترسلون الحكومة؟ ما رأيكم أن تأتوا بأنفسكم إليّ ونتحاسب؟ خُذ، خُذ، خذوا" طوب طوب طوب! انتهى كل شيء، قضي الأمر، أردى الجميع قتلى. وقف مستقيمًا في الوسط، مستدير الظهر، رمى مسدسه على الأرض، حرّك يده الأخرى عاليًا، اللون الأسود يطغى تدريجيًا على الشاشة.
Cut
هذا ليس فيلمًا، إنما حقيقة. إنه "أرنولد"، سبعة وعشرون عامًا، عاطل عن العمل، من مواليد نهاية التاريخ حسب التقويم الفوكويامي، أي أوائل التسعينات، الابن الضال لطوطم الحضارة الجديدة التي أرست نفسها كامبراطورية متعالية لا تستكين، امتهن لعبة الكاونتر-سترايك ولم يمارس الرماية ولو لمرةٍ واحدة في حياته. اتفق المعنيون كما سيتفق المؤرخون لاحقًا، على: "أرنولد" شخصية قريبة من "والتر وايت"، بطل مسلسل "برايكينغ باد"، شخصية شبيهة بـ "ديكستر مورغان" في مسلسل "مورغان"، نموذج الإنسان المعاصر الذي هشمه المركز. تم التعرف على هويتهم عن كثب وبالاسم: مقموعي الأطراف، اقتصر تمايزهم عن قامعيهم بالشكل فقط، بالتموضع المُضاد، وأداروا الأذن اليسرى لمقولة "نيتشه" الأكثر شهرة "إنتبه عندما تحارب الوحوش أن تصبح واحدًا منهم". وعليه، ناكفوا القوّة بنفس طبيعتها المهيمنة، بمخالبها الحادة. كنت أكذب في البداية عندما صرّحت أن هذه الحادثة حقيقية وليست فيلمًا. أعني، لقد بالغت قليلًا، وهذا بالطبع لدواعي كتابية وللمواربة في فن المحاججة، لكن تمهل قليلًا، جرائم فظيعة كهذه تحدث كل يوم، وأحيانًا على مدار الساعة، ذلك أن الحياة أعنف من الفيلم وأقبح من الفاصل الإعلاني الذي يحجب تراص أحداثه، لا ترحب بحياد التلقي ولا تفتح الشهية على الوجبات الخفيفة أثناء الفرجة. في الفيلم، لديك كتف حبيبة يمكنك أن تتكئ عليه كلّما مررت بمحنةٍ عويصة، أما إذا تفاقم غيظك في الحياة نتيجة عدم ولائك لمعايير النظام، أو لخروجك عن طاعة البرجوازية المقيتة وفقدت صوابك فستكون الفاجعة المقبلة تراجيدية بالكامل. يحدث أن تكون متميزًا مثلًا، عندما تشعر بالحنق، فتقوم باستنساخ وضعية تمثال "الحكيم" كما نحته "رودان" مع تعديلات بسيطة، معاصرة، تشبه حالتك، فتضع إصبعين في فمك وتتقيأ سمًّا، تتنفس الصعدّاء وتتخلى عن الصيحات الشيطانية التي تجول في رأسك لافتعال إشكال مع أحد المارة وينتهي بمجزرة، لكن هذه العقلنة لا تجد لنفسها دائما مساحة شاغرة في اليوميات، ذلك أن الفرادة والجوهر الغريبين عن ثنائية "أرنولد" وجلاده، في عصرنا هذا، سمتان مفقودتان مثل حبات اللؤلؤ الموجودة في قلادة الضحية أعلاه. خُذ معتقد أرنولد واعتنقه سبيلًا في الحياة، ستمارس مهنة الحلاقة وتقص الرقاب بدلًا من الشَعر أو تشذيب الذقن. وفي حال أردت أن تخوض مغامرة سينمائية، فيمكن أن يكون الفيلم بعنوان "صباحٌ خالٍ من ناعومي كامبل" من بطولة "كريتيكال طالب" وإخراج "إكسبيري-مهدي". فيلم ينصّ على انتقام مدّوٍ قامت به "جبهة زارعي الحليب" كما يحلو لهم تخيلها مع عرّابي التفاهة. اتركها عليّ وسأمارس الدور. "المذرفكرز يريدون العبث يا كريتيال، المذرفكرز يريدون العبث يا كريتيكال، المذرفكرز يريدون العبث يا كريتيكال"، تدور مجريات الأحداث على الشكل التالي: ناعومي كامبل مع أصدقائها في جلسة من الثرثرة التافهة، حائرة لأي مذهب ثوري يناسب الموضة تنتسب إليه. يأتي كريتيكال ويخرج الإكسبيري من وراء الكاميرا، بيده وعاء كبير من الخراء، ونساعدها كالتالي: "هيا ناعومي، افتحي فمك… على رسلك، على رسلك… والان، ابلعي، أيييوا!" فتصمت الجعدنات إلى الأبد ونخدم الثورة خدمة العمر بتطهيرها من أعدائها. لكن ليس هذا المطلوب. نحن هنا لنقد وتفنيد تجلّيات الإنسان المعاصر وتمظهراته وليس الترويج له أو الاقتداء به ولو على سبيل التسلية. إلا أن في الأمر إحالة، إذ أن هذا التماهي الكبير بين الحياة والفيلم الذي يقوم به صاحبنا، الإنسان المعاصر، يحمل دلالة فاضحة على عجزه الفادح في بناء خاصية، فيسارع لتشكيل هويته بـ "التي كانت"، بالطريقة الأسهل والمتوفرة أمامه والتي تحاكي المناخ السائد. عندئذ، يصبح الأمر مألوفًا لديك، أن زميلك في العمل المعروف باسم عَلَم، جهد أهله ليقرروه، أن تراسله عبر الإيمايل بلقبٍ مستعار اختاره بنفسه ليعكس أمنيته بمن يريد أن يكون، مثلًا: فلان.الفولانة_توني.مونتانا@بلا-بلا-بلا دوت كوم. وهذه مشكلة أخرى مضافة تفتح أفقًا جديدًا للحديث عن سمات هذه الشخصية المعنية في هذا العدد.
إنسَ جدلية الفيلم والحياة، إنسَ نموذج "أرنولد"، دعنا نتكلم بالسهل الممتنع، ما رأيك بمؤخرة كيم كاردشيان؟ ما رأيكِ أختاه؟ طبعًا كل إجابة متعلقة بالحجم (هي بلا شك ضخمة، "هيوج") بالإعجاب أو بعدمه لا يعوّل عليها. أتحدث هنا عن المعايير الإستيتيقية التي فرضتها مؤخرة كارداشيان، وعن المعنى الوجودي المرجو الذي تضيفه هكذا مؤخرة للكائن. ومما لا شك فيه، أنها أصبحت موضوع امتثال، مثلًا عليا، رمزاً يجسد ليبيدو الإنسان المعاصر، على شرط أن يكون السياق كاملًا "مؤخرة كيم كاردشيان"، من دون الفصل بين الدال والمدلول، لأن نجومية كارداشيان اختزالية، سنحت لها أن تكون مرجعًا وحيدًا لكل المؤخرات الكبيرة منذ فجر الإنسانية حتى يومنا هذا. إنها الأسطورة التي خرقت الإنترنت، ولَو يا مان؟ المحط النهائي للإنسان المعاصر الذي عَبر من كهف أفلاطون باتجاه مؤخرتها دفعة واحدة، سعيدًا بحرقه كل مراحل التاريخ، بابتسامةٍ هوليوودية ناصعة البياض. أنا الآن منحل، ويبدو الأمر، عصيًا عليّ يا صديقي القارئ ويا صديقتي القارئة، أن أختار جوابًا على السؤال الذي حيّر "البير كامو" بعدما رآه مسألة جوهرية تلخص مشكلة زمانه ومعضلة الأجيال القادمة. لا أريد أن أنتحر، صدقًا، ولقد شربت دلوًا كبيرًا من القهوة يضاهي بالكمية قطر هرم خوفو ولم أهدأ بعد، لأن موضوع الإنسان المُعاصر سيصيبني بالجنون. قررت أن أقرأ "رحلة ماغ" فدخلت على الموقع الإلكتروني: دابليو دابليو دابليو دوت رحلةماغ دوت كوم وإذ يسألني الكومبيوتر "هل أنت روبوت؟" أوكي، ربما أفقه قليلًا كيف تحاور الروبوت كوننا سبق واستضفنا في المجلة أحدها ودخلنا في مسامرة مباشرة معه حول مفهوم الاغتراب وكيذا، لكن كيف يعقل أن أكون روبوتًا؟ وكيف لك أيها الكومبيوتر الروبوت ألا تعرف ميزة من تتشارك وإياهم نفس الكينونة؟ باي ذو واي، ولكي لا أنسى وكونها سيرة وانفتحت، مبروك أيها الإنسان المُعاصر "الروبوتارِيَا"، سلطة الروبوت الجديدة عليك، صك البراءة الذي يجب أن تسجّله كل مرة لكي يسمح لك بالدخول إلى عالمٍ يخصّك، من المفترض أن يكون أكثر رقة وحنانًا. وهنا، يستحضرنا الشعر، لا كغاية خلاصية أو تطهيرية من فجاجة الراهن الآني، بل بوظيفته البلاغية التعبيرية، "الأرض زرقاء مثل تفاحة" رآها بول إليوارد"/"تريد أن نتناول الطعام؟ إيه بشيل" رآها الإنسان المُعاصر. توقف لحظة! لا أريد أن أبدو وكأنني في خضم المقارنة بين حالتين مختلفتين نهائيًا، جل ما أريده أن أعرّي هذا الأبله الذي يدّعي التفوّق والانسيابية، في الوقت الذي تتآكله الفراغات، لا يعرف أن يتكلم وتلاحقه أشباح خفية يعجز عن تقفي آَثارها. الغياب التام ووهم الاستحواذ على الشيء ولو تطلب الأمر تدخّل اللغة. يتذاكى أساتذة المدرسة على التلاميذ ويقدمون لهم مسائل يجب حلّها لينجحوا في الامتحانات حيث ترد على الشكل التالي: املأ الفراغ بالكلمة المناسبة، والفراغُ عبارة عن ثلاث نقاط أي مركز الجواب المبتغى. دعك من أنني وقعت في الفراغ منذ أول نقطة استفهام طُرحت علي، فالمسألة ليست شخصية هنا إنما جوهرية بامتياز، ما غفل عنه الأساتذة والتلاميذ هو أن المركز بحد ذاته غائبٌ. هذا ما أكده الإنسان المعاصر، علميًا وذاتيًا. ألا تصدق؟ إسمع: دبّت حالة من الهلع في منطقة ووهان الصينية بعد موت آلاف الأشخاص في أسبوع واحد حملوا عوارض ترتكز على ضيق في التنفس ووجع مؤلم في الصدر تصاحبهما حرارة مرتفعة. مرّت فترة زمنية قصيرة، وتم التعرف على هذا المرض وأدرجت تسميته في القاموس،"جائحة الكورونا"، بعد أن اجتاح العالم والتهم أرواح مئات الآلاف. ماذا يعني الكورونا وكيف يمكننا مواجهته؟ خذ راحتك واتصل بصديق إن كنت لا تعلم، ومن المفضل أن يكون صديقك متخصصًا في العلوم. لا تتعذب أخي، ليس بحوزته جوابٌ، فهو أيضًا لا يعلم. سيقول لك في أفضل الأحوال أنه عدوّ غير مرئي، خطر داهم يهدد حياتك، والحل الوحيد لحماية نفسك بصرف النظر عن الكمامة، يكمن في أن تجلب الصابون، تفرك يديك وتعدّ: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، أحد عشر، اثنا عشر، ثلاثة عشر، أربعة عشر، خمسة عشر، ستة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرون. هذا كل ما يمكن أن يقدمه لك العلم بالنسبة لصحتك عدا عن أنه سيوفر لك تذكرة مجانية لتتنزه على سطح القمر حافي القدمين إذا ما وجدت لقاحًا فعّالًا متعارفًا عليه مع تعريف بسيط عن ماهية الكورونا وأسبابه. عليّ أن أعترف أنني مثلك يا مان، شعرت بالملل من النص ومن صاحبه أثناء العدّ، لكن روح العصر بأكملها باتت مملة. وهذا هو جوهر الإنسان المعاصر، وجه بلا ملامح، جوهر مجوّف فارغ، غير قادر على التمييز، تسري عليه الكذبة كأنها بلعة ماء، ترسم مصيره لوحات الإعلانات ويخنع لذائقة الجماهير. وللمزيد تتمة؛ حدثت غفلة كارثية أودت بحياة أرسطوفان بعد أن مات مخنوقًا من الضحك، لكن المأساة الأشد وطأة أحدثها إراديًا الإنسان المعاصر مستهلًا إياها بشيء أشبه بالنكتة. إقرأ هذا الخبر: "توفي اليوم مصمم الملابس المشهور وأيقونة الأزياء كارل لاغرفيلد الملقب بالقيصر والذي تميز بشعره الأبيض القصير المصفف على شكل ذيل حصان وبنظاراته الشمسية المعتمة عن عمر يناهز 85 عامًا. وقد أورد في وصيته أنه يريد أن يذهب جزء من ثروته البالغة 200 مليون يورو باسم قطته شوبيت". وجه بلا ملامح، وبلا قلب، تبًا.
الصورة: لوحة بعنوان "إبن الإنسان (The Son of Man)" لـ "رينيه ماغريت"
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة