تدور أحداث فيلم "الخط الأحمر الرفيع" (1998، عن رواية لجميس جونز، سيناريو وإخراج تيرنس ماليك)، في الحرب العالمية الثانية على جزيرة ماليزية. جنود أميركيون يقاتلون جنوداً يابانيين لطردهم منها. إلّا أن المَشاهد نقلت معارك من طرف واحد، إذ لم يظهر فيها جنود يابانيون ولا حتى مصادر نيرانهم، إنما تأثيرات التراشق المتبادل على الأهداف: تفجير موقع، فرار طيور من شجرة تحترق، ألغام، اختراق الرصاص أعشاباً وجدراناً، تدمير سقائف وأكواخ، صراخ، وجنود أميركيين... وتحركات هؤلاء الأخيرين ومناوراتهم ووضعياتهم القتالية وتوتّراتهم وإصاباتهم... كانت كافية لنقل أجواء معارك طاحنة وتظهير "العدو" المستتر (أو المستّر عمدًا) وأخطارها وعواقبها. وأما المُشاهد فيشعر بأن العناصر المقابِلة موجودون بالفعل هناك وهنالك وهنا... لكنه لا يراهم.
وكورونا هو وباء خفي ولا ضرورة، بالطبع، للاستعانة بفيلم أو رواية لإثبات خفائه، إنما لما في العمل المصوّر الخيالي وحالة الوباء الواقعية عناصر للقياس والتشبيه في حالتي الخفاء. هي قوة السينما التي رسّخت هذا الخفاء الذي كانت لتعجز عنه الرواية... لأن خيال القارئ، على عكس المُشاهد، يعجز عن إلغاء فاعل الفعل، فالأول يحيي الفاعل حُكمًا.
وأما في حالة كورونا فالفاعل حقيقي لكننا نعجز عن رؤيته في الواقع كما في الخيال الذي كان يُبنى حتى في أكثر الأعمال تخيّلًا على التمثيل، تمثيل اللامرئي بمخلوقات يستوعبها عقل البشر بسهولة، تمامًا كما في كل الأعمال التي تتناول مخلوقات غريبة، سواءً أكانت ظريفة مثل إي تي، أم شريرة مثل الوحش دومو دومو أم غودزيلا الديناصور الذي ولد من طَفْرة غير محسوبة. فعقلنا لا يزال يتقبل المحسوس، والمرئي منه أكثر.
نعم، في فيلم "كونتاجيون" (عدوى، إخراج ستيفن سودربرغ) لا نرى الفيروس، ولكن العمل مبني على وقائع انتشار فيروسات من قبل، لا سيّما السارس وانفلوانزا الطيور والخنازير، وأما أرقام الضحايا فأوحت بها ضحايا الانفلوانزا الأسبانية (1918). أي أن الخفاء والمكافحة مبنيان على بيانات ووقائع سابقة. لكن تلك الجوائح على وسع انتشارها ظلت محدودة الأضرار. والأدهى أننا أبقينا فيلم "عدوى" كوليد للخيال، ووضعناها ضمن "تفنيصات هوليوودية"، حتى طلع علينا أجمعين السلطان كوفيد.
وأوحت الحالة التي خلعتها الجائحة على كوكبنا الأزرق لزعماء ومسؤولين وعامّة بأنهم يخوضون حروبًا ومعاركَ، والأكثر اتّزانًا من بينهم وصفوها بالخطر الشديد والمحدق... فوضعوا الخليقة أمام السلطان كوفيد التاسع عشر وجحافله المتناهية الصغر.
والحق أن من الخليقة جمعاء، لم يستهدف السلطان غير البشر، على عكس نزاعاتهم التي تدمّر الحجر مع البشر، متفوّقًا بذلك على الغرض من الأسلحة الذكية التي اخترعوها، فهذه كمثيلاتها التقليدية، لا تميّز هدفها بل تُردي جماعةً مجتمِعة أشلاء وركامًا... إلّا الشخص المستهدف أحيانًا. أما أسلحة كورونا فتصيب هدفها بدقة متناهية كصغرها ولا شيء غير هدفها... أي البشر فتقتل بعضهم وتزرع بذورها في بعضهم الآخر كالألغام. ولا تدمّر أفكارهم وإنجازاتهم ومآثرهم وأمجادهم ومخلّفاتهم إنما تعرّضها للذواء والاندثار والنسيان، وإذا أحسنت إليهم تتركها عرضة للتغيير الباهظ الثمن في مستقبل مجهول، يشبه العود على بدء.
إذًا، خفاء الجنود اليابانيين في فيلم "الخط الأحمر الرفيع" ليس في عدم وجودهم ولا في احتمائهم بدشمٍ حصينة أو أكمات. وحتى عندما استطاع الأميركيون احتلال التلة الأخيرة في الجزيرة لم نرَ في منقلبها الآخر أي جثث تدل على أن اليابانيين كانوا أصلًا هناك. المخرج قصد إخفائهم ليقول إن الحروب تخاض أحيانًا على الذات وأن الضحايا هي نفسها بين أطراف النزاع. كأنها مرآة ينعكس فيها العدو صديقًا والصديق عدوّا. أي أن كلًّا يقاتل نفسه ويقتل نفسه ويعطب نفسه وصراخ هذا هو صراخ ذاك. والانتصار والهزيمة سيّان، كلاهما يُتحول في سلام تالٍ إلى مادة لمصالح مشتركة، فيها حصص للمنتصر كما للمهزوم. يتعايشان لبرهة من التاريخ قبل أن يتخاصما ويختلفا فيشنّا حربًا جديدة، ولأسباب مختلفة ظاهريًا.
جاء السلطان كوفيد التاسع عشر وفرض "حربًا" بسيطة جدًا. تكتيكه واضح جليّ للإنسان، ويتمثّل في استغلال عاداته وتقاليده وبداهته، إذ تنقض الفيروسات على كل من يحتك فيها ويلمس أنفه أو فمه أو عينيه فتنتقل العدوى إليه ويصاب. هكذا ببساطة. والموت والنجاة في جهاز مناعة المصاب. لعبة حربية ربما، لا فيها دوي مدافع تجعل سامعها يحتمي بدشمة ولا أسلحة متطوّرة أو ذكية ولا شيء من هذا القبيل.
ومع ذلك، نرى في كل أنحاء العالم شوارع مقفرّة وأناسًا مهرولين، كما لو أنهم فارّون من تراشق نيران قريب. وفي مناطق أخرى من العالم، بقي الناس على سعيهم اليومي يحتكون بالفيروسات وينقلونها إلى أناس آخرين، كنوع من التحدي ربما، سببه اضطرارهم إلى تأمين لقمة العيش فلا قدرة للفقراء على الحجر الصحي. ومثل هؤلاء آخرون هم من الذين يتوكّلون فقط على إيمانهم بمعتقدات دينية وغيرها. وهكذا يكون السلطان كوفيد احترم التقسيمين الطبقي والسوسيولوجي للمجتمعات البشرية، لكنه فرض معركته على الجميع بالتساوي، وتركهم كل لحذره ومناعته ولحاجته ومعتقده.
والسلاح الوحيد الفتّاك ضد فيروسات كوفيد 19، هو الماء والصابون والمعقّمات الكحولية. والبشر لا يقيهم منها غير هذا السلاح السهل المنال، لكن مشكلتهم الكبيرة تكمن في تفادي الإصابة. فللنجاح في درء خطر الفيروس شروط أقل ما يقال عنها تعجيزية، ولكنها قابلة للتطبيق من خلال المراس والجلد والقناعة بأن تنفيذها يأتي في مصلحة منفّذها ومحيطه.
ذلك أن مكافحة عدوى الكورونا، كما تبيّن من مقاربات لها في مختلف الدول، لا تتعلّق بالسياسة والاقتصاد وإمكانات الدول وحسب، بل أيضًا هي مسألة ثقافية واجتماعية كما يرسخها الواقع. وفي طليعة الجوانب الثقافية والمجتمعية لمكافحة الانتشار، يأتي التعقيم (أو التأنّي في النظافة) لمنع انتقال الفيروس إلى الفرد فالجماعة. ولإجرائه، هناك طريقة واحدة تعمّمت وبات يتّبعها كل سكّان الأرض، وتطالعنا في كل وسائل الإعلام التقليدية والحديثة. لكن في تطبيقها ظهرت كل الاختلافات الثقافية والمجتمعية بين سكان الأرض.
شئنا أم أبينا هناك جائحة على كوكبنا الأزرق، سواءً أكانت اصطناعية أم مفتعلة أم طبيعية... لا فرق (حاليّا على الأقل). والمطلوب، وفقاً لتجارب دول كثيرة، هو التعقيم الذي يتقدّم على أهمية الحَجْر لأن التشدد في الأخير متفاوت. وهنا يفرض كوفيد التاسع عشر نفسه كمضاد لطبيعة البشر، وهنا ينكشف خداعه وقسوته... وديستوبيته.
فلتنفيذ عملية تعقيم، على المرء أن يتبع خوارزمية متسلسلة الخطوات للنجاة، هامش الخطأ فيها ضيّق جدًا، وتصحيحه قد يوقع مرتكبه بأخطاء أخرى. وأما الحل فهو في الاقتناع بوجوب اتّباعها والتمرّس فيها لكي تصبح يسيرة وعاديّة؛ وإلاّ اتّخذت فيروسات كوفيد التي قد تكون حاضرة على الأسطح، وضعية التربص. ولهذا تأثيرات شديدة على الصحة النفسية والعادات. فالبيت، مثلًا، الذي ألفناه مستراحاً انقلب إلى مكان عمل ومعيشة معًا، ويجب تحصينه لمنع تسلّل الوباء إليه. هذا البيت أصبح جُحرًا أو وكرًا نحتمي فيه من الوباء ولا ضمان لسلامة هذا الملاذ إلّا بالتشدد في تطبيق خوارزمية النجاة بحذافيرها.
فتسلسل الخطوات هو أمر يطبّق عادة في بيئة عمل، بين وصول الموظفة أو العامل إلى مكان العمل وخروجه منه، ينفّذ كل يوم سلسلة من المهمات المحددة مساهمةً منه في دورة الإنتاج. وعندما يعود إلى البيت يتحرّر من كل تلك القيود فيدخل ويخرج وينفّذ الأعمال المنزلية والنشاطات الخارجية كما يحلو له. وتبقى وصفة الطبخ المتسلسلة بدورها كالخوارزمية، لكنّ صاحبتنا أو صاحبنا يستطيع تنفيذها بحرّية ونَفَس طيّب، فالمهم أن تكون النتيجة لذيذة.
في زمن الكورونا، جاء الحَجر الصحي ليحدّ كثيراً من العمل في أماكنه المعتادة، لكن خوارزمية النجاة بقيت وغدت أكثر تشدداً لأن المحتمل إصابتهم به هم من الأعزاء: الأهل، الزوج/ة، الأطفال، القريب/ة، الصاحب/ة، الصديق/ة، الشريك/ة. ومن هنا يلوح الوجه الأول لديستوبيا الكوفيد، وهو المنع: منع العناق والتقبيل والملامسة والجنس... خصوصًا قبل التعقيم. ولكن بعد التعقيم هل يكون الفرد واثقًا تمامًا من أنه غير مصاب؟!!
ولعلّ السلطان كوفيد استعار هذا الوجه من أوجه ديستوبيته من رواية "1984" لجورج أورويل، حيث ممارسة الجنس حكر على أعضاء الحزب الحاكم فقط، وممنوعة على الشعب ويعاقب عليها القانون. ويُسمح لهؤلاء بممارسته إما من خلال الرغبة الخيالية أو الفانتازيا لكي تفتر شهوتهم، وإما للتناسل بغية الحفاظ على استمرارية الحزب.
أما السلطان فلا مصلحة معروفة له، ولا يأبه بالاستمرارية لأنه لا يحاول حتى تجنّب الصابون وسيلة قتله. حتى أنه صالح للأكل فحمض المعدة يهزمه، لكن ليس للاستنشاق فهو يتكاثر في خلايا الروايا. ولا عقل له ولا عقال، فقد جاء مع تكتيكه الحربي "فول باكدج"، كما يقولون بالإنكليزية. هو مجرّد شيء ممرِض روّع البشرية، وأعادها إلى المربّع الأول إلى الخوف الأصلي البدائي في انتظار علاج ناجع... ومع ذلك يمكن مساكنته أو التعايش معه، فأوبئة كثيرة مرت في الأزمنة الغابرة بعضها استقر قرونًا وبعضها الآخر يأتي ثم يغيب. والتعايش مع كوفيد ليس مستحيلًا شرط تطبيق تلك الخوارزمية بصرامة.
فخوارزمية النجاة باتت معروفة وهي مؤلفة من بضع خطوات إلزامية، تبدأ عند عتبة المنزل دخولًا، حيث تمنع عليك دخوله بالحذاء الذي ترتديه. وتجيز لك وضع الأغراض التي بحوزتك في ركن معزول، ومنه تتناول كل غرض وتنظفه بالصابون أو تنقع الخضار بالماء والخل، بعد أن تكون غسلتَ يديك أو اغتسلت. أما المآكل المطهوة فالحرارة كفيلة بتذويب الفيروس. غير أن مشكلة هذه الخوارزمية أنها مفروضة فرضًا. وهذه مشكلة عويصة، لأنها تضعك أمام حالة من الإعاقة التامة، في ما يشبه "مخاض الولادة"، فلا تستطيع الاستعجال إذا كنت مزحومًا أو رنّ هاتف المنزل لترد عليه، أو إذا ركضتْ نحوك طفلتك الصغيرة (رعب!)... عليك أن تقف هادئًا متيقّظًا، مسلّحًا بمنهجية راسخة لكي تتجاوز ذلك المخاض. أي أنك مع عودتك إلى المنزل كأنك تولد من جديد.
وعند خروجك ناصعًا، تستقبلك عتبة المنزل من جديد. عبورها سهل هذه المرة لأنك ستكون، في كل الأحوال، أمام حضرة الفيروسات واحتمالات وجودها في الأماكن والطيّات. فتذهب وتخوض احتكاكك بها. والشرط الوحيد للنجاة هو أن لا تلمس وجهك، على رغم كل ما يصيبك من وخز وتعرّق وحكاك... ما لم تعقّم يديك.
والناس الآخرون ليسوا أعدائك... عدوك قد يكون مقيمًا في رواياهم من دون أن يدروا. فتقع عليك أنت مسؤوليتك تفادي عطاسهم وكحّهم، وعدم توجيه عطاسك وكحّك نحوهم، حتى ولو كنت متأكّدًا من أن زكامك عادي.
الديستوبيا الكوفيدية لا تشبه أيًا من الدستوبيات التي سطرها كتّاب الخيال العلمي، فالدستوبيا نبعت من واقع الأنظمة المستبدة منذ التاريخ البشري. وهؤلاء الكتّاب الذين بشّروا بها ووضعوها ضمن مَشاهد مستقبلية، إنما استلهموا أحداثًا مرّت وإنجازات علمية ضخّموها، كما عملوا على إلغاء مكوّنات اجتماعية معيّنة ودرسوا العواقب. ولكنّهم أبقوا على السلوك البشري واستجابات البشر للشروط التي وضعوها... وكتبوها كأنهم يتفرّجون على فئران مختبر، فوصلوا إلى خلاصاتهم بالتجربة والخطأ.
الديستوبيا الكوفيدية كفيلة بأن تلغي عادة تافهة كنقر منخارك إذا حكّك، وتكبح اللهفة إلى عناق صديق أو تقبيل حبيبة أو احتضان طفل، وتلغي الرغبة في دعوة أصدقاء إلى عشاء، وتنسف بداهة أن تهرع لمساعدة سيدة عجوز في قطع الطريق. ومعايشتها بأمان تتطلّب منك التخلّي عن إنسانيتك في لحظات تنفّذ فيها أفعالًا روبوتية، ثم تستدعي إنسانيتك مجدّدًا لكي تتصرّف بسجيّة (غير مضمونة العواقب) وتهتم بسلامة الآخرين داخل المأوى وخارجه، حريصًا كل الحرص على سلامتك أيضًا من العدوى.
كتبت المفسبكة يسرى عقيلي: "هذا الكوكب يحاول أن يخبرنا بكل طريقة أنه غير مرحب بنا". والسؤال: هل نتقبّل حكمه علينا؟ أم، نحاول النفاذ من هذا الحكم بمساكنة فيروسات كورونا وتحمّل العواقب، ليس بهدف اكتساب المناعة، بل لاسترداد إنسانيتنا التي عهدناها والسير قدمًا؟
أنظروا إلى الطيور تشدو والحيوانات تسرح والنبات ينتعش والطبيعة كلها تتألّق في فصولها، فيما البشر مزروبون داخل علبهم، الفاخر منها والوضيع.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة