أستاذ دانتي أليغييري؟ صاحب ملحمة الكوميديا الإلهية؟ أهذا أنت؟ ماذا تفعل هنا في بيروت؟
نعم أنا صاحب الملحمة… أحضّر لمشروع جديد في بيروت... هذه ليست زيارتي الأولى. اليوم وصلت وأخدت تاكسي من المطار، "كزدَرني" الشوفير على الطريق البحرية ذهاباً وإياباً، ثم نزلت هنا. لفتت انتباهي يافطة كبيرة كُتب عليها "سوليدير ويل أند إن 2019" و "سوليدير هاز ستوبد". كلّما قرأتها شعرت أنها نبأ عاجل، معجّل مكرّر. والملفت أكثر هو تمثال رفيق الحريري، Mr. Lebanon وهو يراقب اليافطة من الجهة المقابلة من دون أن يحرّك ساكناً. كأن الأمر تمّ، هذه المدينة، وواجهتها المشعة سوليدير، ستنتهي.
إذاً هذا ما دفعك لزيارة بيروت؟
لا لا، هذا ما أكّد وجهتي بعد وصولي إلى هذه المدينة. ولكني قررت السفر إلى بيروت منذ نحو سنة، بعد أن قرأت في مجلة رحلة نصّاً عنوانه "لماذا لا تقوم القيامة؟". أعتقد أن العدد صدر في سياق تفجير الرابع من آب. وشعرت أن القيامة ستقوم في بيروت فعلاً، لذا أتيت لأهيّئ الجحيم. فأنا أصبحت أتعهد المشاريع الجهنّمية منذ أن كتبت الكوميديا الإلهية.
يعني يا سيد دانتي أليغييري، أهلاً وسهلاً بكم في الإنهيار، يرجى شدّ الأحزمة، إنه لشرف لنا أن تصمم جحيماً خاصاً للبنانيين في جنّة المتعهّدين. أخبرني، أين ستقام القيامة؟ في الفورون دو بيروت أم في معرض البيال؟
لا هاي ولا هيديكي، الصالتان دُمرتا إثر التفجير اللعين، يا حرام. جحيم دانتي سيكون في مبنى فندق الهوليداي إن الأثري.
أها، الهوليداي إن، يعني أنت تستدعي ذاكرة الحرب الأهلية وتعرضها في فندق خمس نجوم بعد أن احترق؟
نعم طبعاً، وعندما تقوم القيامة، سيتم استدعاء الجميع، وسيأتون أفواجاً أفواجاً. سيتم استدعاؤهم إلى جحيم الهوليداي إن، وفي حال عدم الحضور، يتم إحضارهم مخفورين بمساعدة عناصر من أمن الدولة على وقع موسيقى الهيب هوب "I'll take you to the Holiday Inn".
يا له من جحيم كوميدي راقص يا دانتي، ارحمنا يا رحيم.
ما رأيك بجولة ميدانية؟ أريدك أن تدخل معي إلى "جحيم دانتي"، إنه العرض الأخير قبل الافتتاح الرسمي
حسناً، الرحلة مستمرة
أنظر. صمّمتُ هذا الجحيم انطلاقاً من شكل المبنى، طوابق واسعة، على عكس الجحيم الدائري الذي وصفته في كتابي. ولكني استخدمت اللافتة الأصلية ووضعتها على مدخل الفندق: "Lasciate ogne speranza, voi ch'intrate"، وترجمَتُها: "تخلّ عن كل أمل يا من تدخل هذا المكان!"
أها، أرى خلفها آثار غرافيتي، أعتقد أن مقاتلي المرابطين كتبوها عام 1975 خلال معركة الفنادق: "سنلقّنهم درساً في القتال".
نعم، أحسنت، جحيم ما بعد جحيم.
*** الطابق الثالث ***
دانتي، هل يمكننا أن نركب المصعد؟
المصعد ليس سوى أداة لحجب حقيقة أن الحياة شاقة.
لم أنتهِ من تجهيز الطابقين الأول والثاني، فلنصعد إلى الطابق الثالث. هذا الطابق مخصص لمن يصفّقون ويرقصون ويغنّون على أنغام "قلن إنك لبناني" و "لبنان رح يرجع" ومرددي عبارة النبي "ويلّ لأمّةٍ بلا بلا بلا" كلما وقعت واقعة في لبنان. تلعب مكبّرات الصّوت هذه الأغاني حتى نهاية الدهر كنوع من التعذيب الموسيقي الخفيف.
*** الطابق الرابع ***
تتسلّل أنغام الطابق الثالث إلى روّاد الطابق الرابع. تبدأ حفلة الشواء. الضيوف: الشهواني والشَرِه والمحتكِر والمبذِّر. خطيئة هؤلاء أنهم لم يسيطروا على شهواتهم وغرائزهم في مدينة الاستعراض بيروت. أعلم أن الأمر صعب، ولكنها مشكلتهم، وهذه المصيبة حلّت بهم. أرى هنا أمّة من النّفوس الضّالة، الضّعيفة، وجدوا أنفسهم في آخر الدهر قد أجهَدوا صدورهم حاملين أوزاناً ضخمة، فوق أرض من نار، يصرخون ليلاً نهاراً، يتدحرجون على بعضهم البعض، ويصدح صوت عميق من أعماقهم: "لماذا تحتكر؟ لماذا تشتهي؟ لماذا تبذّر؟" هذه طبيعة الثروة، ترفع الشعوب نحو القمّة ثم ترميهم في حفرة من نار. هذه النار اشتعلت عام 1975. وقودها كان يجري التحضير له منذ بداية السبعينيات. ألم تشاهد فيلم "بيروت جيل الحرب" لجان شمعون ومي مصري؟ ألم تسمع ذلك الشاب الذي قال إنه فَرِح عندما رأى فندق "الهوليداي إن" يحترق. إنه الحقد الطبقي يا حبيبي. هذه نار الحقد الطبقي تشتعل في الطابق الرابع إلى آخر الدهر.
طيب هل يمكنني أخذ تعقيب أو تصريح من أحد الموجودين هنا؟
لا جدوى من التحدث إليهم. فهم خسروا فرادتهم حتى باتوا عاجزين عن التعرف على أنفسهم في المرآة.
*** الطابق الخامس ***
زارعو الفتن. "الفتنة" أشهر من أن تعرف. الفتنة المعروفة المجهولة في لبنان. في هذا الطابق يُعذَّب زارعو الفتن ويشوَّهون بذبذبات قنوات التلفزيون. تنفصل أجسادهم عن أرواحهم لأن خطيئتهم في الحياة كانت تمزيق ما قصد الخالق أن يوحّد. هؤلاء على استعداد لتمزيق نسيج المجتمع بِرُمَّته لإشباع أنانيتهم. بعد انفصالها عن الجسد، تبدأ الروح بسحب جثّتها تحضيراً لرميها من النوافذ، كما فعل المرابطون عام 1975.
ولكن يا دانتي، العالم بدّا تعيش، حياة الزهد غير ممكنة في عالمنا هذا.
التوريث السياسي ليس مصدراً لـ "العيش"، والتّعريص ليس مصدراً لـ "العيش"، وامتلاك "بيزنس" ورثتها عن الوالد الرأسمالي المحتكِر القذِر ليس مصدراً لـ "العيش". أن ترث عن المستعمر الفرنسي وكالات استيراد ومرفأ لا يبرر لك أن تستعبد وتستعمر شعبك لمئة عام.
*** الطابق السادس ***
هنا طابق الـ VIP ، حتى أنني أمّنت خدمة الفاليه باركينغ، عيش بيروت، live love beirut. هنا يحترق أصحاب المصارف بين سبائك إحتياطي الذهب على حرارة 1064 درجة مئوية. الخبر السّار هو أنّ الذّهب موجود، ونقول للمصرفي اللبناني: "مستقبلك ذهب".
عفواً ومن هو هذا الرجل الذي يبتسم في الزاوية؟
هذا يوسف بيدس، مؤسس بنك إنترا، يلعب على طاولة بوكر، ويراقب الحريق عن بعد. All in.
*** الطابق السابع ***
حسناً، نصل الآن إلى الطابق السابع. إنه الطابق الأخير في جولتنا، فالطوابق العليا لم تجهز بعد. في هذا الطابق نرى الأمير فخر الدين يضع القرميد الأحمر الذي استورده من توسكانا على 7 طبقات من بيروت. يُقال أن بيروت دُمّرت سبع مرّات ونهضت من جديد. هذا هو قرميد السقف. سكّرنا. لا ولادة جديدة لبيروت بعد اليوم.
أعتقد أنني أرى رجلاً يشبه نقيب محاميي بيروت، ماذا يفعل؟
صحيح، إنه النّقيب، وهو يكتب على الحائط "بيروت أمّ الشرائع" ليختفي الحبر ويُعيد كتابة نفس العبارة مراراً وتكراراً. هذه هي عقوبة صاحب قصيدة "أنا حلم آتٍ أنا حلم يتجسد ولو بعد عشرين وأربعين سنة".
شيل. طيب بالتوفيق يا دانتي، الله يعمّر معك. لقد تعبت من هذه المشاهد المرعبة، الكوميدية طبعاً. فلنخرج إلى الشرفة المطلّة على البحر المتوسّط. أرغب بإشعال سيجارة. سؤالي لك هو: لا أريد أن أتدخّل أو أن أغوص في الخلفيات التي دفعتك إلى تصميم جحيم بيروت. ولكن ألا تعتقد أن هناك شيئاً من القساوة في هذا العمل العمراني المسرحي الدرامي؟
شوف يا موكسي، الميثولوجيا هي بالأساس بيولوجيا مُحرّفة، أي أنها تَُشكّل رعبنا البيولوجي المكبوت. والايديولوجيا هي اللاوعي الذي يكشف عن نفسه في الجماعة. أي أن الأفكار التي ننتجها كجماعات، ميثولوجية كانت أم أيديولوجية، هي حتماً وليدة اللاوعي الجماعي، بل هي أيضاً خريطة نفسية-جغرافية يمكن أن نستكشف من خلالها معالم الجحيم المكبوت. ولهذا السبب، ضروري أن نأخذ على محمل الجد تلك الفرضية التي ترى أن الإفراط في الخيال هو السبيل الوحيد إلى إدراك عمق الواقع. بيروت هي أسطورة أو قصة رمزية تخفي في طيّاتها غرائز وشهوات حفنة من البرجوازيين الذين حكموا هذه الأرض.
في جحيم الهوليداي أحاول أن أرسم صورة المدينة الفاسدة ومشهد انحلال الروابط الاجتماعية، الخاصة والعامة، أشرح كيفية تفخيخ كل ما هو جيّد، وإفساد كل ما هو بريء. هنا كلّ كائن يتحوّل إلى مسخ، كل مسكنٍ إلى مبنى مهجور، وكل مبنى مهجور إلى مشروع هندسي مسخ. وعندما تفرغ المدينة من الأفكار، تدمّر ليعاد بناء استعراض جديد يشبع الغرائز.
يبدو لي أنّك "تمركست" يا دانتي، أشعر بالحقد الطبقي يتفجّر في عروقك.
طبعاً، تمركست، دوائر وطبقات جحيم دانتي ترمز إلى المجتمع الطبقي، وأنا سوف أشعل الجحيم في بيروت بدءاً من الهوليداي إن.
يطعمك الحج والناس راجعة. سيقول الجهابذة إنك ماركسي متحجّر أو يساري غوغائي لا سمح الله.
كلام الناس لا بيقدّم ولا يأخّر. هل تعلم أن ماركس قرأ ملحمتي عندما كان يكتب أطروحة "رأس المال"؟ كنت من شعرائه المفضّلين، وكان يردّد فقرات من الكوميديا الإلهية بصوت عالٍ أمام زواره في دارته في عين التينة، عفواً في لندن. حتى أنه اقتبس مني وتعلّم اللغة الإيطالية من خلال قراءة أشعاري.
جميل يا دانتي. أعتقد أن ما تقوله ليس بعيداً عن الحقيقة. انتشرت في القرن التاسع عشر كتابات لمنظّرين اشتراكيين يصفون من خلالها رحلة النزول إلى أعماق الجحيم. حتى أن الخطايا الأخلاقية التي تُردّدها في كتابك تشبه إلى حد ما الخطايا الاقتصادية التي تحدث عنها الاشتراكيون الأوائل.
صحيح، اعتقد أن ماركس كتب أطروحته رأس المال كرحلة إلى جحيم الرأسمالية الحديثة. أراد أن يعرّف القارئ على طريقة عمل رأس المال، وعلى العلاقات الاجتماعية في ظلّ هذا النظام والنتائج التي تترتب عنه. وكما يقودني الشاعر العظيم فيرجيل في دوائر الجحيم، وأنا أعرّفك على طوابق الهوليداي إن، يُظهِر ماركس للبروليتاريا أسباب عذابهم وسبل التحرر من قيود الرأسمالية.
أوافقك الرأي يا دانتي. الخيال هو سبيل فهم الواقع وربما تغييره. لم أكن أتصوّر أن الأسطورة أو الملحمة، كنوع أدبي، قادرة على عرض الواقع ونقده بهذه الطريقة. ولكن، هنا في بيروت، كما هي الحال في مدن أخرى اليوم، فقدَ التاريخ الطابع الأسطوري الملحمي. فكيف نستفيد من الخيال إذا فقدنا الذاكرة مثلاً؟ كل شيء يتكرّر كما لو أن التاريخ يسير في خط دائري، ثمّ ننسى. تفشل الذاكرة في توثيق أحداث تحوّلت إلى لحظات متقطّعة منفصلة عن بعضها البعض. لا يبقى شيء من التجربة. يقول تيودور أدورنو: في كل مكان، مع كل انفجار، يُختَرَق الدّرع الواقي حيث تتشكّل التجربة الشخصية […] لقد حوّلَت الحياة نفسها إلى سلسلة من الصدمات المتتالية التي تتخلّلها فجوات متفاوتة ومساحات وسيطة أصابها الشّلل. ومع ذلك، لا شيء أكثر كارثية بالنسبة للمستقبل، من الحقيقة التالية: أنه لن يكون بمقدور أحد أن يفكّر في أن كل تروما متكرّرة، وكل صدمة غير معالجة، هي خميرة الدمار الآتي.
فلنذهب إلى الجحيم يا دانتي.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة