ضمن فيلم "قلعة في السماء"، وهو فيلم رسوم متحركة للمخرج الياباني هاياو ميازاكي، عرفت أحد معاني اليوتوبيا قبل أن أعرف الكلمة نفسَها. تخيّل/ي الآتي: تدور أحداث القصة في السماء. أكرر. تدور أحداث القصة في السماء. تلقائيا، نشعر أن لا محل لليوتوبيا على أرضنا البائسة. هرب المخرج إلى المتخيَّل اليوتوبي، لجزيرة هائمة وطافية على الغيم، حيث تتآلف الطبيعة مع التكنولوجيا بغياب عن الإنسان. تنمو "لابوتا"، المدينة الجزيرة الغابة، على مهلٍ دون تخلل بشريّ. تبدو "لابوتا" من بعيد نموذجا شعاعيا متناظرا. تدور المدينة حول مقرّ جاذبيتها. تمتاز "لابوتا" من بعيد بأنها، ومن منظار التخطيط الحضري، عقلانية. طرقاتها محددة وواضحة. عند الدخول إلى قلب المدينة، نتفاجأ بخلافِ المتوقع. الفضاءات معقدة، وغير مفهومة. تبدو يوتوبيا المدينة المنظمة من بعيدٍ قد فردت عشوائيتها. إنها يوتوبيا التعقيد المنظم، يوتوبيا النمو الخوارزمي والتمدد السحريّ.
كيف تبدو مدينة بيروت اليوم في حضرة "لابوتا". هل تبقّتْ فسحة لبعض اليوتوبيا في مدينة يسودها الخراب. يحضر هنا ليون باتيستا ألبيرتي، المعلّمُ القائل إن البيت مدينة والمدينة بيت، وان مفهومه لل "Concinnitas" ، أي ما يشابه مفهوم الانسجام، يشمل علاقة البيوت ببعضها، وبالتالي علاقة البيوت بالمدينة. تتجلّى الميريولوجيا هنا باحتمالات ارتباط الأجزاء: ارتباط الغرفة بالغرفة، ارتباط الغرفة بالبيت، ارتباط البيت بالبيت، ارتباط البيت بالمدينة.
بيروت مدينة الديستوبيا تبقّى فيها بضعة بيوت تغلغلت فيها احتمالات اليوتوبيا. تولّد انفجارات العلاقة اليوتوبية/الديستوبية أو المدينة/البيت ثنائيات جعلت كلًّ منا يعيش علاقة كره وحب للمدينة.احتمالات اليوتوبيا هذه شبيهة بـ "لابوتا". بيوتُ مهجورة تتفتت ببطء. تجدّدُ جلدها وتخلع طبقاتها مع مرور الوقت، تتبدّل وتتجدد دون وجود العنصر البشري. تسقط هنا قواعد اللغة والمعاني. الديستوبيا، أو الخراب، يبدو يوتوبيًّا في هذه البيوت. لمَ ننتشي أمام الأنقاض؟ لمَ ننتشي إزاءَ بقايا التراث البشري التي تخلو من البشر؟ نشأت حركة "بورنوغرافيا الأنقاض" مع انفجار العصر الرقمي، ومع تبادل البيانات ضمن كوكبنا الأزرق. تكونت شبكة من المنتشين بالأنقاض، يتبادلون صورا من مدنهم وقراهم المهجورة.
يلمسنا الخراب. تلمسنا البيوت المشلّعة، تتنفس هياكل المباني دون كامل أعضائها، فتذكّرنا أننا قادرون على العيش دون رئة أو رِجلٍ أو قطعة من القلب. يلمسنا الخراب في المدينة، وإن كانت، كبيروت، مدينة تتنكر في زيّ الحداثة. يلمسنا الخراب الجماعي لأنه يحاكي اللاوعي الجماعي، يحاكي الرغبات الدفينة أمام البيوت المهجورة، رغبات الأضداد ورغبات الثنائيات: الإفيميرا أو العوابر، والخلود. نقف أمام بيوت زقاق البلاط. إنها الخلود. نعرف ان لا تاريخ انتهاء صلاحية للحجر. ونعرف ايضا، انها عوابر إزاء عمليات الهدم الممنهجة. نعرف ان يوتوبيا مدينتنا يكبر على أنقاض العوابر الزائلة. ننتشي داخلَ فضاءات تجعل منّا آلهة أو حيوانات عجيبة. لا وجود للوقت. تتحدى هذه البيوت المحسوس واللامحسوس. إنها الديستوبيا الحقيقية التي تولّد، وحدها، يوتوبيا الخلود والفناء معا.
للخراب أيضا جماليّاته. يكشف الخراب عن نفسه مع انعدام العنصر البشري. يبدو أن العنصر البشري والعنصر الزمني أهم ما يحوّل اليوتوبيا إلى الديستوبيا والعكس بالعكس. مع انتشار فيروس كورونا كوفيد19، التزمتِ الناس بيوتها، أو كما قال ألبيرتي مرةً، مدنَها. خلت بيروت من العنصر البشري فبان الخراب الحقيقي. خلعت المدينة المارة، فبانت العمارة. مدينة، باستثناء بضعة شوارع وأحياء، وبموضوعية خالصةٍ، بشعةٌ. عندما يرسم المعماري تصاميمه، يرسم أيضا العنصر المتحرّك. يرسم الإنسان والحيوان والشجرة. تساعد هذه الرسوم على فهم كيفية استعمال التصميم أو تبيين الفضاء المَعيش. إن خلت الرسومات من هذه العناصر، باتت التصاميم كما هي، على حقيقتها. هكذا بدت بيروت، المدينة المتنكرة بالسهر والبسط والـ"جو اللذيذ" تقيّأت بشاعة عمرانها على سكّانها وصانعيها. الخراب أيضا يتقيّأ خرابه أو جماله على صانعيه.
للخراب أيضا مُنتقوه. ليس صدفة أن ركض الناس بعد انتفاضة 17 تشرين إلى أبنية سوليدير المهجورة، يكتشفونها من كل الزوايا. حملت البيضة الإسمنتية الناس في قلبها وفوقها. ليس صدفة أن يفشل مشروع "إعادة إحياء البيضة"، الذي يقتضي، ضمنيا، تحويل خراب البيضة، أو ديستوبيّتها، إلى يوتوبيا جماعيّة. وكأن المباني المتبقية من غيمة اليوتوبيا بحاجة لمن يعيد إحياءها. أولئك الذين شاهدوا فيلم ميازاكي يعرفون جيدا ان "لابوتا" تحوّلت من يوتوبيا إلى ديستوبيا عند أول تدخّل بشري. للبشر، ومستخدمي الفضاءات المعمارية نزعة نرجسية تفرض نفسها على "الجماد". قررت تلك النزعة ان تفرض الاسماء والمعاني على الأشياء، فقط من منظور مدرسة التجسيم، او ال"anthropomorphism"، فصنّفت تلك المباني تحت خانة الجماد، أي لا تقرر او تفعل، بل تكون او لا تكون بأمرٍ بشري. للخراب أيضا خياراته. لا نستطيع أن نقنعه أن يصير فضاءً تعليميا، أو أن نقوم بحركة احتلالية للخراب فنغيّرَ طبيعته. ليس صدفة أنّ حركة "احتلّ البيضة" زالت قبل أن تكون. نحن ننصاع لقواعد الخراب المعماري.
للخراب أيضا كارهوه. نشأت اليوتوبيا المعمارية منذ أن بدأت العمارة، حين خط المهندس المعماري نموذجه الفرديّ عن نظرته الأمثل للمدينة. النماذج. تبدو النماذج معلّبة على الرفوف، تصرخ: خطواتك الأولى نحو تحقيق اليوتوبيا. لعلّ أهم المشاريع المتّسمة باليوتوبيا هي التي تبدو أنها أولدت نفسها دون تدخّل المعماري. تعدُّ "La cité des étoiles" أو مدينة النجوم للمعماري الفرنسي جان رينودي يوتوبيا خجولة، علما أن خرائط المشروع تشبه مدينة من أنقاض. أًنشأ المشروع بين عام1974 و1981، وهو عبارة عن 207 وحدات سكنية. قام رينودي بإنشاء مدينة البيوت هذه بجهد كثيف وتكلّف بسيط. تتعانق الوحدات السكنية في المشروع حول بعضها كحقول زهر. تلتف الوحدة على الأخرى. لا قواعد للنموّ بل عشوائيةٌ مدروسة وكفيلة أن تصنع نفسها بنفسها. إنها اليوتوبيا العابثة بقواعد الديستوبيا. أجهضت بيروت طرقاتها عندما بناها المعماريّون الجدد، أصحاب النظرة الثاقبة والناظرون إلى المدينة من فوق إلى تحت. شقوا الطرقات، وشلّعوا جسم المدينة. سلخوه عن نفسه. شرّحوا النسيج أفقيا عبر شق الطرقات الواسعة، وفصل الأحياء عن بعضها، وعموديا عبر بناء ناطحات سحاب عشوائية آملين أن يصنعوا اليوتوبيا البيروتية.
للخراب أيضا مؤيدوه. أعني الطوباويّين الذين يعرفون أن لا مجال لليوتوبيا في مدينتنا إلا عبر الخراب. لأولئك الطوباويين أشباه في عالم الحيوان. تعيش اليعاسيب معظم حياتها على شكل حوريات تحت سطح الماء تحضيرا لمرحلة البلوغ التي تعدّ دوما أقصر بكثير من مدة التحضير. تختبئ معظمَ حياتها، لتعيش اليوتوبيا الخاصة بها ولو لوقت قصير من حياتها. هكذا ظهر صانعو المدينة في المواجهات الأخيرة. جزء منهم يتوغّل في الغاز الكثيف. يتمايلون على مهل ويرتجلون الرقص البطيء. يتقيّأون أحشاءهم على واجهات محلّات سوليدير. يتقيّأون أحشاءهم على قيء من سبقهم. يظهرون بعد اندساس طويل تحت سطح الماء. من على جسر الرينغ تبدو المدينة كأنها تحولت لمدينة من حليب كثيف نسبح فيه. وقف السيّد "سين" أمام المشهد، وقال: على هذا المشهد أن يكون مشهد الخراب السرمديّ. تلك يوتوبيا مدينتنا، الديستوبيا الكاملة، فرح المدينة الأبديّ.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة