حدثني راعٍ عن أغنامه قال: "الأغنام خُلقت لكي تُذبح وتؤكل. هذه طبيعتها، وهذا ما اعتدنا عليه نحن البشر. والتعامل معها على هذا النحو يشكّل تمرينًا جيّدًا للسيطرة. عندما يأتيك ضيف على حين غرّة، تلتقط النعجة الأقرب إليك وتذبحها إكراماً له. وبهذه الأضحية تكون رفعته إلى مكانة الآلهة التي ما فوقها مكانة، حتى ولو لم يكن يستحقها…" ثم ابتسم.
وقبل أن يرتفع حاجباي دهشةً مما قاله أخيراً، عاجلني وقال: "نعم. حتى لو ما استحقها. فلو كان معدنه أصيلًا، لردَ لي الأضحية خدماتٍ مفيدة؛ ولو كان دنيئاً، لظنّ نفسه إلهاً وسار مختالاً لا يرى أمامه شيئًا أو أحدًا، فيتعثّر بعقبة تافهة ويتدحرج إلى أسفل الوادي… هكذا تكون تجارة الأغنام الناجحة."
ولم أكد أسأله "هل تتركه يموت؟" حتى قال: "لا شأن لي في ذلك. هو ينتفخ ويفقع من تلقائه." الحق أني كنتُ أجهل سر إجابات الراعي السريعة على أسئلتي قبل أن أطرحها. لكن هذا لم يفسد متعة التحدّث مع شخص مفوّه وعليم مثله.
تنحنح الرجل قليلًا قبل أن يخبرني عن سبب ذبيحة الاستقبال، وروى لي حكاية النذل بانُورْجْ الجبان الذي عرّى نفسية الخراف وسلوكها على حقيقتهما بسبب فعلته الخسيسة. وقد نقلها جد الراعي عن سلسلة "غارغانْتويا وبانْتاغروييل" (نحو 1532 م.) للروائي الفرنسي فرانسوا رابيليه، وكان طبيباً يسلّي مرضاه بـ "التخريط" كجزء من العلاج.
"إلّا أن القصة حقيقية،" يؤكّد لي الرجل الهادئ. فقد اختلف بانُورْجْ مع صاحب الأغنام على سعر خروف. ولشدّة أذية الأول، قبل بالسعر المرتفع برأيه، ودفع المبلغ، غير أنه توجّه إلى هاوية ورمى بالخروف نحو البحر، فلحقت به كل الخراف وقفزت من أعلى الجرف، أمام دهشة الرعيان والتجّار وأصحاب المزارع الذي أعلنوا إفلاسهم فورًا. "ولمّا شاع الخبر وورلد وايد، تأثرت تجارة الضأن والمواشي في القارات القديمة والجديدة، وارتفعت تكاليف حماية القطعان بالأسيجة والكلاب المدرّبة."
وأكّد الراعي: "منذ ذلك الحين، راجت ذبيحة الاستقبال بين الرعيان كدليل على كرمهم ولدرء الشرور عن قطعانهم،" قبل أن يستطرد قائلًا: "ولما انتشرت وسائل الاتصال الحديثة، أصبح الزبائن يختارون الحملان والجدايا الرضّع إثر سماع ثُغائها عبر الهاتف، لشرائها وصنع وجبات المندي والمفطّح بها. ومع الأونلاين، يمكن القول إن لعنة بانورج زالت." فأطلقتُ لمسايرته ثغاءً احتفاليًا محاولًا تقليد تلك الحيوانات الوديعة وضحكنا طويلًا.
ثم اعتدل محدّثي في قعدته، والتفت نحوي قليلًا وقال بجدية: "لطالما شكّلت الأغنام أضاحيَ للآلهة منذ القدم وفي كل الديانات والمعتقدات. وعبق دخان الشواء في كل الكتب والعهود. وتطوّر الأمر إلى ترقية الضأن إلى مرتبة عليا هي "حَمَلُ الإله" الذي لا يواجه العنف بالعنف حتى ولو ضحّى بحياته فداءً لقضايا وخطايا. وهو حَمَل بشري قيل فيه "مثل شاة سيق الى الذبح ومثل خروف صامت أمام الذي يجزّه هكذا لم يفتح فاه".
تردّدتُ في سؤاله عمّن يكون هذا الرجل - الخروف، لكنه سرعان ما أشبع فضولي إذ قال: "لم يعد مهمًّا من يكون، فالأهم هو استغلال البشر لهذا التركيب أو المفهوم "الخروف - البشري". لم يبقَ شكلٌ من أشكال السلطة في الكوكب إلّا واعتمده للسيطرة والحكم. حتى أن مختبرات بحث وتطوير أقيمت لترسيخ عملية باتت تعرف باسم "الخَوْرَفَة" (للبالغين) أو "التنعيج" (للقاصرين). والصيغة المستخلصة عبر علوم المقارنة التي تطوّرت مع الوقت - بعد مرور حوالى 13 ألف سنة على تدجين الخراف - هي بسيطة ويا للعجب: 1) الشد والرخي في التسلّط من خلال تضييق الخناق على الأفراد والجماعات، بقوة تراوح بين الناعمة والقاتلة حسب اللزوم. 2) وذلك لتعويد البشر على حالات فرق الضغط وتلاعبه فتصبح طبيعية لديهم. 3) ثم إذكاء ميزتي الوداعة (الحمل الوديع) والوهن لديهم لتعطيل دفاعاتهم الجسدية والفكرية، وترهيبهم بسهولة. 4) وذلك بهدف تأمين إخضاعهم لما يمليه "النظام" عليهم كمواطنين أو كمستهلكين لعقائده أو معتقداته أو منتجاته، أي ما يضمن بقاءه واستمراره ولو بأشكال مختلفة."
الحقيقة ضُعتُ مع أن الراعي عدّد مكوّنات تلك الصيغة بهدوء. ولمّا بدا عليّ الإرباك، أخذني إلى مطرح آخر: "الخراف ذخر للأنظمة والزعماء والقيادات… حتى الثورات تحتاج إلى نعاج. إنهم أكياس الملاكمة. إنهم الذبائح التي يستقبلون بها أعداءهم أو خصومهم (لو جاؤوا إليهم على حين غرّة). ويحدث أحيانًا كثيرة أن يطالعك حَمَلٌ مفترس يتقاتل مع أخيه في الخورفة لأسباب كثيرة، ونادرًا ما يلتفت إلى قواسم مشتركة."
نظر الراعي إليّ بمودّة وكنت أومئ له برأسي أني فهمت، فتابع: "عتبي على جورج أورويل لأنه حصر حيوانات مزرعته في نظام استبدادي. الكوكب كله يقتات على الأغنام. ألم يكن شعار الثوار في البداية: "كل الحيوانات سواسية؟" ثم أضاف الخنازير إليه "لكن بعضها أكثر سواسية من سواها". كلا الصيغتين أنشدته الخرفان بحماسة وسرور… يا عزيزي."
"عزيزي… قال لي عزيزي"، فرحت وهو أحس بذلك ثم قال وقد بدا منشغلاً قليلًا: "كلمتان أخيرتان ضعهما قرطًا في أذنيك: لا خلاص إلّا بالقضاء على الخورفة… وإلّا فكلّنا نعاج وحملان."
"كلّنا نعاج؟!"، قلت لنفسي. ثم شعرتُ فجأة ببرد يلفح جلدي فاستفقتُ ورأيت صوفي الكثيف مجزوزًا على الأرض وقوائمي مثبتة على أوتاد حديدية. فرحت أثغي مستنجدًا بالراعي العليم الذي أقبل نحوي ببطء، مستلًا ساطورًا… "مااااااااااااااااااااااااااء". هكذا لفظت أنفاسي الأخيرة التي استقبلها الملائكة وهم ينشدون:
He maketh me to hang on hooks in high places
He converteth me to lamb cutlets
For lo, He hath great power, and great hunger…
(يعلّقني بالشناكل ويرفعني عالياً / يحيلني كستليتة غنم / لأنه هوذا، لديه قوة عظيمة وجوع عظيم - من أغنية "Sheep" لفريق بينك فلويد.)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة