ماتت شينيد أوكونور يوم 26 تموز/يوليو 2023. حزنتُ بعمقٍ لرؤية وجهها المضيء مذيّلاً بمزدوجين يقرآن (1966-2023). في الشحطة الصغيرة بين الرقمين حياةٌ كاملة أمضتها في حالة مقاومة واحتجاج. قالت المراثي: مغنية، ايرلندية، عن عمر 56 عامًا، Nothing Compares to You، إلى آخر الخبر. وقيل كانت استثنائية، لم يشابهها أحد، كانت شجاعة، كانت مشاغبة، كانت معذّبة، كانت وحيدة... خسرها العالمُ فنانة ومناضلة بنفس القَدْر وعلى ذات السويّة، لا تسبق إحدى الصفتين الأخرى ولا تتأخر عنها، وذلك ليس بالهين. وأنا حزنتُ لأنّ الخسارة تبدو لي عامة وشخصيّة، فأنا أيضاً على قَدْرٍ من السذاجة يورّطني في تخيّر أبطال دنيويّين. ليسوا كثراً، لكنهم موجودون، أعرف بعضهم وأسمع ببعضٍ فيكون ما أراه منهم كافياً لأعدّهم من أسباب ذلك الشيء المبهَم المسمّى أملاً. وأحبّهم. أحبّهم لأنهم عكس ما نختبر كلّ يومٍ مما لا نحبّ.
فطنتُ منذ مدة إلى حقيقة أنني كلّما كبرتُ صرتُ أقلّ احتمالاً للسينيكية. أعني بها تلك الصِفة التي تتفشى في كلام ومواقف الفاعلين والمعلّقين على جديدِ عالمنا، بديلاً عن المكاشفة والوضوح. تخفيف الثقيل وتثقيل الخفيف والاغترار بما كلّ ما ليس إيماناً بأي شيء. بتّ أشعر بها شيئًا لا يُحتَمل، تُغلّف الرأي وصاحبه بطبقة لزجةٍ من كلامٍ لا يقول شيئاً ويظنّ أنه يقول كلّ شيء، فكيف نحتمي من ذاك السّيل؟ وجدتني أفكر بهذا بالذات في اليوم التالي، وأظن الآن أنني أحببتُ شينيد أوكونور لأنها كانت نقيض تلك السينيكية الخنّاقة، صافيةً كماءٍ، أو كرصاصة، ولأنني رغبتُ ببعضِ ما عندها من الشجاعة، ومن الانكشاف. اختلفت المواقع في تعريب اسمها الذي اختارته لنفسها بعد إسلامها، "شهداء صدقت"، أو ما يشابهه لعلّها عنت به أنها كانت بيننا لتشهد بصدق على هذا العالم؟
كم هو جميلٌ ومُرعبٌ الانكشاف في عالمٍ يزداد فخرًا بانعدام إيمانه بأي شيء. "هذه أيامٌ خطيرة. فأن تفصح عمّا تشعر به يعني أن تحفر قبرك بيدك"، قالت في أغنية. ولعلّ المرأة كانت تحفر قبرها إذاً. نظرَتْ في عين الكاميرا شابةً وأجرت دمعةً كبيرة لامِعة رقراقة أمام الجميع في الفيديو الموسيقي لأغنية "لا شيءَ يُقارَن بك"، تلك التي فجّرت شهرتها. ثم أسالت عينيها مجدداً أمام كلّ غريبٍ على تويتر، امرأةً محزونة تندب ولدها الذي أنهى حياته في سن السابعة عشر.
وكان انكشافها مغريًا لشرار المتلصصين، مذهلًا ومربكًا للمحبين، ومحرجًا للجميع إلّاها. تكلّمت المرأة عن تعرّضها للإساءة والعنف من أفرادٍ في عائلتها، قالت أنها متعبة ومريضة. صنعت موسيقى وأغانٍ بكلمات لا تخضع لشروط السوق وتوجّهاته الربحية أو الأخلاقية. سخرت من زملاء موسيقيين يرفضون الاستماع إلى من يصغرهم سناً. بحثت عن الخير والله في ديانات الأرض كلها، فلبست ثوب القساوسة ثم لبست حجاب الرأس. أذّنت ثمّ ابتلعت الويسكي على خلفية أصوات الشاجبين وغنّت من جديد.
"ما الجديد؟ كنت مسيحية سيئة والآن أنا مسلمةٌ سيّئة". في كل موقفٍ كانت المرأة التي تخفّفت من شعرها تخلق لدى جلّ المتلقّين شعورًا مزعجًا بعدم الارتياح. بعضنا أُحرج من مواجهة وضوحٍ بهذه الصراحة وبعضنا أُحرج لأنه لا يمتلك سوى دهشة التلقّي ولا يعرف سبيلًا إلى تلك المرتبة من الكشف.
ولعلّ شينيد أوكونور قادرةٌ على إشعار المرءِ بالذنب. وهو ذنبُ من لا يقدر على أن يحترق مثلها، أن يلطم خدًا أو يسيل دمعًا أو يطلق عويلًا من أجل جموعٍ لا يعرفها ولكن يعرف عذاباتها.
لم تحتج شينيد إلى خطابٍ شائع وحملات إعلامية تقرر عنها أنه من الآمن والمقبول اليوم أن تعلني مناصرتَك منبوذي المجتمع والدولة والدين. فعلتها قبل أولئك وبأشكال أكثر بلاغة وصدقًا. كانت هناك مع الذين يعيشون تحت السطح لأنها منهم، منبوذة أخرى تنفر منها الجماعات الهلِعة المطبِّعة مع العنف والمروِّجة له. نعاها المنبوذون وقالوا كانت معنا لمّا كنا قلّة بلا حليف أو نصير، مع الأطفال المعرضين لتحرش رجال الكنيسة الكاثوليكية، مع مرضى الإيدز، مع الكويريين، مع المرضى النفسيين، مع السود، مع الفلسطينيين، مع المظلومين. وكان لمن يشاهدها أن يلمس في كلامها وعينيها استنفارًا حقيقيًا يلكز جلدها من الداخلِ غضبًا... وأفكّر ليتَ العالم كان ألطف مع تلك الفتاة.
مزّقت شينيد صورة البابا على التلفزيون عام 1992، عندما كان ذلك أمرًا لا يمكن تخيّله أيّا كانت معتقداتك، تدنيسًا كاملًا لأقدس المؤسسات الأبوية، وقالت كما قال بوب مارلي "الحرب! الآن! في كلّ مكان!" كانت مذهلة، بانك-سكينهيد بسترة جلدية وقميص تحتله صورة العذراء. وكانت كاثوليكية "سيئة" ومسلمة "سيئة" وامرأة "سيئة" بمعايير السيئين. كانت استثمارًا فاشلاً في "البيزنس" لأن صوتها لم يُروّض في الأغنية أو في الكلام، وكانت منكشفةً للريح والنسمة والعيون، وكان الشهود قساةً جدًا والعالم شريرًا وغبيًا. وأنا ورفاقي، بأبطال أحياء أقلّ وسذاجةٍ أكبر وقلّة حيلة تتجدد يوميًا، حزينون وغاضبون، نريدُ أن نحبّ ونريد أن نؤمن ونريد أن نصرعَ تنّيناً من أجلك أنت - كنتَ مَن تكون - ومن أجلِ فتاةٍ منبوذةٍ في مكانٍ ما.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة