كائن قلق في الأيام العادية، تخافين من أن تُصابي بمرض أو تتعرّضي لحادث ثم من حاجتكِ لدخول مستشفى ودفع تكاليف العلاج، أو لشخص سواك ليعتني بكِ. وهذا لأنكِ وحيدة في المدينة، تعملين في مهنة حرّة ويُطلق عليك لقب "فريلانسر". تجلسين خلف مكتب وشاشة. والمكتب الصغير هذا، المحشور بسريرك، لا يوفّر لكِ ضمانًا اجتماعيًا أو صحّيًا. لذا وللمحافظة على صحّتكِ، تقررين المراهنة على احتمالية الحوادث وتباعد وقوعها فلا ترين حاجة لدفع جزء من راتبك المتقطّع العشوائي الذي يأتيكِ نتفًّا من أكثر من جهة. إضافةً إلى أنك تكرهين شركات التأمين، وتكرهين المصارف… فلا تجدين أمامك سوى القلق ملاذًا آمنًا.
بعد سنوات من الاستدانة من المستقبل لإحياء سويسرا الشرق على عاتق أرواحنا، صرنا في المستقبل وانهار الاقتصاد. وها هو ينهار فوق رؤوسنا، نحن الذين لم ننعم بوهم الأمل والمستقبل. تُحتجز أموال المودعين الصغار في المصارف. يرتفع سعر الدولار ومعه أسعار كل السلع وخدمات السوق. يُصرف المئات من وظائفهم. بعدها، يحصل انقطاع حاد في الأدوية والمعدات الطبيّة. ومستشفيات تُعلن عجزها عن استقبال المرضى. ووبـــــــــــــــــــــــاء. وتقلّص في عدد أسرّة العناية الفائقة. لا ضمان ولا تأمين ولا خدمات طبيّة. ثم مجـــــــــــــــــــــــزرة.نحن ننجو كل يوم من حسن (أو سوء) حظّنا ودعوات أمهاتنا.
تختبئين في غرفة نومك مع قلق يتحوّل من اكتفاء أمني ذاتي إلى كائن متمرّد يفتك بكِ. لن يصيبكِ مكروه في مأواكِ الصغير. لكن يحدث، أن تقع على رأسكِ مرآة ضخمة كانت مركونة فوق دُرجك. ولأنك سريعة الحركة، ترفعين يديك فوق رأسك قبل أن تصيبكِ. تقفين. تحاولين استدراك ما حصل، فيسيل دمك من رأسك على وجهكِ. تصلين إلى هاتفكِ. عليك الآن كسر خوفكِ بأن تشكّلي عبئًا على الآخرين، و(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) أن تطلبي منهم المساعدة! تتصّلين بأقرب شخص إليك، جغرافيًا. "عزيزي المشترك، لقد انتهت صلاحية خطّك"، تُجيبكِ الآلة. تفتحين "الوتسآب"، تحاولين الاتصال. لا رد. الانترنت مقطوع، انها العاشرة صباحاً، موعد انقطاع الكهرباء. تمشين ببطء نحو الباب وتصرخين لجارتك. تسمعكِ. تصل المساعدة.
ما الذي حدث؟ تسألك الممرضة، "حدث، أن وقعت مرآة الدُرج على رأسي، هاها". تساعدك في الجلوس على سرير الطوارئ، تحمل يدكِ، تغسلها لك من الدماء، ثم تفرّق خصلات شعرك بهدوء لترى حجم الجرح. "جرح واحد ع جبينك بس" تقول لك، وتمسح بلطف الدم عن جبينكِ، ووجنتيكِ، وترفع شعركِ عن وجهك. تبدأين انت بالبكاء، تنتبه هي وتسأل "عم وجّعك؟". تنفين ثم تضحكين مجددًا. تنتبهين أنك بكيت لأن الممرضة لطيفة جدًا، ولأن السماح لأحد غيركِ أن يهتم بك أصبح فعلًا نادرًا وصعبًا. تتذكّرين إعلان قرض عمليات التجميل الذي انتشر قبل الانهيار "الجمال نادر وصعب"، وتضحكين مجددًا.
تصلين إلى مأواك الذي لم يعد آمنًا. الدماء والزجاج متناثرة على الأرض. تهرعين لتنظيفها قبل أن ينتهي مفعول البنج من جسمك ويبدأ الألم. مهمة التنظيف صعبة، أنتِ الآن تتحرّكين بيدٍ واحدة. تعودين إلى سريرك الذي تركته في الصباح. لا تستطيعين النوم فتلجئين إلى هاتفك وتتصفّحين انستغرام. تستوقفكِ ملصقات لإنفلونسر. إمرأة جميلة (ضمن معايير السوق)، أنيقة، تجلس في غرفة تبدو أنها جزء من قصر، كل ما حولها باهظ الثمن ويلمع، وأسفل الملصق عبارة مكتوبة بالإنكليزية أولاً، ثم مترجمة بشكل رديء الى العربيّة (مع أحرف محرّكة لتضيف سحرًا وهميًا)، "مكتئبة وممحونة". وأسفل الملصق، تعريف بالإنكليزية عن حملة عنوانها "عيب"، تكسر من خلالها الإنفلونسر تابوهات الشرق. خخخخخخ. تضحكين كثيرًا. تبحثين عن الحملة وتجدين ملصقات أخرى من نفس النوع، واحدة للأنفلونسر ببدلة رقص (نعم؟) تجلس على سرير داخل القصر نفسه، عنوانها "أنا حبيبتك وانت مجرد تحلية". تضحكين كثيرًا حتى يزول مفعول المخدّر ويبدأ الألم. وتسألين نفسك، "هو العيب في مين؟".
تتذكرين أنك تعيشين وحدَك، وأن ثمن الحريّة تدفعينه بعزلة وفردية فرضهما عليك المجتمع ورأس المال. تنظرين إلى غرفتك التي لم تعد آمنة، لا هي ولا الحيّ ولا شوارع المدينة المنهارة التي تقطنينها. لكن، من انت لتعرفي ما العيب؟ هذه الإنفلونسر تعرف، هي وأخرى تضع باقة خسّ كأسسوار على رأسها، في حين حُرمت الكثير من العائلات وضعه على طاولة غذائها، وتعيّر "الشعب" بنعتهم بالخرفان. كلتاهما لديها فريق إنتاج ضخم وتمويل ودعم، لتخبرني أنا المرمية إلى جانب كائن القلق الذي يفتك بي، معنى الحريّة والتحرّر والثاورة (الثورة* كما تلفظها صاحبة تاج الخسّ).
تستيقظين في اليوم التالي، وأول ما تبحثين عنه هو العاطفة (أو الممرضة اللطيفة التي أسعفتك ورفعت شعرك عن وجهك)، كوحش فرانكشتاين في أولى لفظات أنفاسه. لكن الحزين الأخير لا يجد من يحبّه، يُنفى من البشر مع أشلاء جسده. هو يصطدم بالواقع ويقتل الجميع انتقامًا، ومن ضمنهم خالقه. أمّا أنت، فكيف ستردين الصدمة؟
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة