هناك قشرة شفيفة تنمو على الكائنات الحيّة والجماد، وترتبط مباشرة بمرور الزمن، فتحوّل مرور الزمن غير الملموس إلى خارطة تحاكي قياس الزمن والشعور معا. أي، خارطة تمكننا من تقدير عمر الاشياء. لكن عمر الأشياء لا ينفصل عن الشعور الناتج عنه. أن ترى الزمن، أن ترى مرور الزمن قشرة فوق الأشياء، كثخانة الغبار والمواد الأخرى، لهو مغامرة في الزمن الضائع، فهو الخروج من اللحظة الحالية، والدخول إلى اللحظات الفائتة. هذا التحوير يفرض عمليّات التحوّل، أي تغيّر الأشياء. بالتالي، لا تشكيل ثابتاً أو نهائيأ أو واحداً.
إن أحد الشروط المسبقة لتكوين التشكّل هو غياب هذا الأخير. وأكثر ما يحفّز عمليات التشكّل بحرية كاملة، هو غياب التشكّل المسبق الذي (أي غيابه) يؤدي بدوره إلى عمليات خلق جديدة، فتتجلّى الاحتمالات الجديدة عند التفلّت من كل الشروط والقيود التي تحدّ من الاحتمالات المعمارية والمدينية. ويجري تهشيم المصنّفات والنماذج المعمارية المعروفة1.
مغامرة أولى مع الزمن الضائع:
الزمان: خريف 2016، المكان، قصر عكر، تقاطع برج المرّ، مدخل زقاق البلاط، بيروت.
أمامي نموذجان معماريّان. الأول قصر من طابقين، معالمه واضحة، بالرغم من سقوط النصف الجنوبي للمبنى. ولكن، هناك شرط مسبق للقصر، نموذج معماري واضح المعالم، لذلك يمكن تخمين شكل الخريطة المعنية بالجزء المهدّم. مبنى ذو بهو وسطي مع غرف محاوطة. لعلّ الواجهة الجنوبية احتوت باباً مركزياً محاطاً بنافذتين. ولعلّ هذه الفتحات جلست على خط مستقيم مع الواجهة الشمالية التي تعلوها أقواس ثلاثة. تلك كانت الشروط المسبقة لتشكّل هذه القصور ذات نماذج شبه متطابقة.
أمامي نموذجان معماريّان. الثاني حطام قصر بتحوّل دائم، لا يمكن تحديد النموذج، لأن لا نموذج مسبق، بل أشجارٌ كثيفة احتلّت المشهد، وغبار كثيف أضاف طبقات فوق الجدران والبلاط. تداخلت أغصان الأشجار، واخترقت جذورها زوايا القصر، حتى حصل انفصال جزئي بين الجدار والسقف. دخلت الشجرة، فحوّلت النموذج المعماري المشروط، وفرضت نموذجاً جديداً محكوماً بخبايا الزمن ومغامراته الشتة في تحوير الأشياء.
مغامرة ثانية مع الزمن الضائع:
الزمان: 2018، قصر زيادة، مقابل قصر عكر، تقاطع برج المرّ، مدخل زقاق البلاط، بيروت.
نشر الروائي الجزائري واسيني الأعرج كتاب "مي: ليالي إيزيس كوبيا... ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" بعد أن عثر على مذكرات مي زيادة المطموسة عن سابق تصميم. مغامرة أخرى في زمن ضائع، أن تقرأ ما كتبت مي، بل أن تقرأ ما خُفي عن مسار الزمن الطبيعي. "أخرجوني من بيتي، قبل الساعة الرابعة بعد الظهر، وأوصلوني إلى مكان القطار، وغابوا عني، فبقيت جالسة حتى عاد الدكتور والرجلان الآخران. وعندئذ قام القطار، إذا نحن في منتصف الساعة السادسة. ومنذ الاسبوع الأول في بيروت، ذكّرت ان عمي، الدكتور جوزيف زيادة، يوعده، وقلت له إنّي أرغب في الرجوع إلى بيتي. فأنا بخير، ولا أحتاج إلى أي شيء. فطيّب خاطري ببعض الكلمات، وأبقاني عنده شهرين ونصف الشهر على مضض منّي، وأنا أطالبه بالعودة حتى استكمل برنامجه في أمري، فأرسلني إلى العصفورية، بحجّة التغذية. وباسم الحياة ألقاني اولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل. أحتضر على ... مهل..."2 يُقال ان ميّ أمضت هذه المدة في بيروت في قصر زيادة، مقابل قصر عكر.
مجدداً، أمامي نموذجان معماريان. النموذج الأول قصر من حجر رمليّ مؤلف من ثلاثة طوابق، هو ذو بهو وسطيّ وتتميز واجهته الغربية بإيوان من أقواس مدبّبة تحيط جميع الشرفات. النموذج الثاني حطام حياة مي زيادة، ومخيّلة تغامر بين ارشيف لامرأة غُيّبت، وعمارة تخفي وراءها قصصا فرّت من الوجود.
مغامرة جارية التنفيذ مع الزمن الضائع:
الزمان: جاري التنفيذ، المكان: النقطة الوسطية بين قصري عكر وزيادة
جرذ كبير يقتات من النفايات المرمية أمام قصر عكر. جرذان أخرى تعشّش في القصرين. حقيقة هذه المدينة في مشهد ديستوبي، قصران جميلان فيهما الكثير من القصص والريبة والمغامرة، يتهاويان ببطء في ثقل المدينة التعبة. وهذه القشرة الشفيفة على الجدران والزجاج باتت جلداً سميكاً، وها هي تمحي ما تحتها من عمارة وقصص ونماذج. عمليات التشكل نحو تهشيم النماذج تبدو ملعباً حرّا للجرذان والخيال. أمامي جرذ ومخيّلة تحاول عبثاً ان تغامر في زمن ضائع هرباً من اللحظة. أن تغامر في زمن ضائع بشكل شبه يوميّ يعني أننا وُلدنا بعد فوات الأوان... إلا ان المغامرة لم تنته، فالأزمنة الضائعة تحاول الولوج إلى الحاضر، عبر شجرة أو أرشيف امرأة.
1- للمزيد من نظرية دولوز عن التشكّل والعمارة، النظر إلى كتاب
Ballantyne, Andrew. Deleuze and Guattari, Guide for Architects. Routledge, 2007
2- من مذكرات ميّ زيادة في كتاب واسيني الأعرج. الأعرج، واسيني. "مي: ليالي إيزيس كوبيا... ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية". دار الآداب، بيروت، 2018. ص.51.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة