لطالما كانت المغامرة سبيل الفرد ليصنع ذاته ومن خلالها حريّته. هي هروب من الحياة اليومية المبرمجة، الميكانيكية والمنتظمة في قوالب قلّما تُخالَف القواعد والقيم فيها. إلا أن المغامرة انتهت - بمعناها الكلاسيكي أو الرومنسي. استكشفت الحضارة البشرية كل بقاع الأرض، وأصبح كل شيء متصلاً بكل شيء. الكرة الأرضية لم تعد لغزاً، نشاهدها يومياً من الأقمار الإصطناعية الموزعة في الفضاء، أحياناً بالمباشر. كلّ حياة وجماد موصول بالشبكة، كل مغامرة مبرمجة مسبقاً، كل سراديب الأرض أصبحت معروضة على "إير بي أن بي"، كل نقطة تبعُد عنا مسافة كبسة زرّ على تطبيق أوبر. يحصل كلّ ذلك بالتزامن مع دخولنا ما وصفه البعض بـ hyperalienation أو الإغتراب المفرِط. علّمنا الكوفيد أننا لم نعد بحاجة لـ"الخارج"، العمل والتسوّق والعلاقات الاجتماعية، الحب وحتى الجنس… كل ذلك أصبح ممكناً عبر الشبكة والعالم الافتراضي. يتحدّث فرانكو براردي عن عالم يتجه نحو حقبة لم يعد فيها الجسد ذات أهمية في عالم الإنتاج، يشير إلى العمال المعرفيين أو cognitive workers الذين ينتجون بأدمغتهم لا بأجسادهم. في العقد الماضي، لاحظ هنري لوفيفر كيف أن المدينة في زمن الحداثة هي مكان للإنصهار والتباعد في آن معاً، الآلاف يراقبون بعضهم البعض يومياً، في الطرقات ومحطات المترو والمتاجر والمولات، ويبقون غُرباء. أما اليوم، في عصر الاغتراب المفرط، عصر الفردية المفرطة، يبدأ التباعد في المنزل. والمثال الأكثر تطرفاً هو ظاهرة الهيكوكومري التي بدأت في اليابان وانتشرت حول العالم حيث يرفض الآلاف الخروج من منازلهم.
يمثّل المتجوّل الهائم (vagabond) اليوم المثال الحقيقي الوحيد للإنسان المغامر. فهو لا يملك شيئاً، لا هاتف ذكي ولا منزل، يعيش خارج الشبكة العالمية، خارج السوق ومنطقه وبرمجة الاستهلاك والرغبات. يواجه الواقع الفجّ بجسده، لا مسافة بينه وبين الطبيعة، يبقى على مسافة من الواقع الرأسمالي، يراقب كواليس التوريد ونقل السّلع وحركة الشوارع، ويتحمّل بجسده أيضاً عواقب العيش خارج السيستيم.
في بداية الثمانينات، لفتت ظاهرة جديدة انتباه المخرجة الفرنسية آنييس فاردا: خلال تنقّلها بالسيارة، بدأت فاردا تلاحظ لأول مرة وجود نساء متشرّدات على الطرقات. في نفس الفترة كانت تسمع أخباراً صادمة عن متشرّدين ماتوا من شدّة البرد: "كأننا في القرون الوسطى". تقرّر فاردا أن تخوض مغامرة إخراج فيلم يجمع بين هاتين القصتين، ومن أجل استكشاف فضاءات الهائمين والهائمات في المدن والقرى، في محطات القطار والبارات القديمة، في الحظائر ومآوي المشردين. من الصعب قراءة هذا الفيلم خارج عدسة الصراع الطبقي. يرشدنا عنوان الفيلم "بلا سقف ولا قانون" (1985) إلى ثيمتي الرفض والمسافة. أرادت أن تعطي الفيلم طابعاً توثيقياً فاتّجهت إلى الأرياف بحثاً عن شخصياتها وممثليها.
قصة الفيلم بسيطة: مجريات آخر أسابيع في حياة مونا، متسكّعة متشردة في جنوب فرنسا، عينة عن الناس الذين التقت بهم في رحلتها، الأماكن التي زارتها ومحاولات البقاء على قيد الحياة والاستمتاع بالحياة البسيطة. قصة بسيطة أنتجتها فاردا بأسلوب معقّد. التعارض بين الشكل والمضمون هو في أساس المشروع: فيلم وثائقي في الشكل يعطي شعوراً بأننا نرى أشخاصاً حقيقيين يروون قصص حياتهم. وبالفعل، هذه الشخصيات حقيقية، الا أن فاردا كتبت حوارات كل شخصية رافضةً ان تسرق الكلمات الحقيقية من شخصياتها. القصة تبدو حقيقية، ولكن فاردا صاغتها انطلاقاً من القصص التي سمعتها ومن الأشخاص الذين التقت بهم. المونتاج يبدو فوضوياً ومباغتاً أحياناً، إلا أن فاردا عملت على تركيب الفيلم بعناية فائقة. الموسيقى تجريبية ولا تشبه الطابع الكلاسيكي للقصة.
مصدر كلمة مغامرة aventure باللاتينية هو كلمة advenire وتعني "الوصول". المغامرة أوصلت فاردا إلى شخصيات الفيلم وشخصية مونا التي تلقى حتفها في الدقائق الأولى للفيلم. الفيلم كالدائرة، يبدأ بموت مونا وينتهي به، وما بين الموتين محاولة مونا خوض مغامرة. مونا كانت تبحث عن مغامرة راديكالية طويلة الأمد، تريد حرية بلا شروط. رفضت المجتمع بنسخته الهرمية المنظّمة، النظيفة، الممنهجة، غادرت واتجهت نحو حياة على الطريق، حرّة، تصطاد لحظات متقطَعة من اللّذة. لكن المجتمع يرد على مونا قائلاً "ممنوع".
هل هي فعلاً مغامرة؟ المخاطرة هو شرط المغامرة، لكن مصير مونا معروف مسبقاً. المخاطرة تخفي في طيّاتها الاحتمال، احتمال الخطر، فرضية الموت، ولكن أيضا فرضية معاكسة: أن لا يحصل كلّ ذلك. ولكن فاردا تقول لنا منذ البداية إن الموت هو قدَر مونا. هذه الحتمية دليل على أن رحلة مونا هي انتحار، انتحار لم تختره بنفسها، بل فرضه عليها الواقع الذي لا يتحمل أن يعيش الإنسان حرّاً خارجه.
تحيط فاردا شخصية مونا بالغموض. لا نعرف عن ماضيها سوى القليل، لا تحليل نفسي لشخصيتها، ولا كشف لحقائق مخفية عنها. تتحدث فاردا عن شخصية مونا وتقول إنها كانت غير واضحة حتى بالنسبة لها وستبقى كذلك. لا نعرف كيف وصلت مونا الى حياة التسكع. نعرف أنها تعلّمت الإنكليزية وتتكلّمها وهو أمر نادر لشخص فرنسي في تلك الفترة الزمنية. نعرف أنها كانت سكرتيرة لكنها هربت من تلك الحياة ومن المدير وأوامره (ربما أيضاً من تحرشه بها). لا نعرف ما إذا كانت قد قررت بملء إرادتها أن تهرب من المجتمع نحو قليل من الحرية أو أن ظروفاً أجبرتها على اختيار الحياة على الطريق. ولكن المؤكد أنها في حاضرها، حاضر الفيلم، لا تريد العودة الى ذلك المجتمع.
أسطورة الفرد في صحراء ما بعد الحداثة
نسوية منذ سن المراهقة، لم تكن فاردا غريبة عن قصص المهمشين والمضطهدين، النساء منهم على وجه الخصوص. في "بلا سقف ولا قانون" المهمشة هي المرأة. في التفاصيل البصرية للفيلم، تركّز فاردا على وقائع وأدلّة مادية في رحلة إمرأة متسكّعة. أما عن صناعة الفيلم فتقول إن أكثر ما لفت انتباهها في النساء المتسكعات التي التقت بهن خلال تحضير الفيلم هو مدى عدم استعدادهن لحياة الطريق والطبيعة، "بالكاد يمتلكن خيمة أو قدّاحة أو سكيناً". كما لاحظَت رفضهن لمعايير النظافة "العادية". خلال التحضيرات للتصوير مع الممثلة ساندرين بونير التي تلعب دور مونا، ركّزت فاردا على حركات الجسد البسيطة وتفاعلها مع محيطها، كيف تحمل حقيبتها وتضعها أرضاً، كيف تمسك السندويش وتأكله، كيف تدخّن سيجارتها… يُظهر الفيلم العلاقات الاجتماعية الهشّة التي تحاول مونا بناءها، ينقلها من مكان إلى آخر، يلتقط طريقة مشيها في ما يشبه الصحراء في جنوب فرنسا، وكيفية تعاملها مع احتياجاتها الأساسية: تأمين الطعام، تعبئة الماء، مكان النوم والخيمة المهترئة. لكننا نراها أيضا في لحظات تشعر فيها باللذة، شرب الخمر، تدخين الحشيش، ممارسة الحب، هوسها بالموسيقى، حبها للنوم والراحة.
كان مارك فيشر قد شبّه النظام الرأسمالي بالطفيليات التي تحوّل لحمنا الحي الى زومبي. أمّا مونا، فهي مثال الإنسانة المذعورة التي تحاول الهرب من الزومبي والطفيليات الرأسمالية. رفضت، وحيدةً، الأسس التي بُني عليها هذا المجتمع والشروط التي تريد تحويلنا الى موتى احياء، في ظل فشل وغياب المشاريع الجماعية الرافضة لهذا الواقع. ففيلم "بلا سقف" يأتي بعد فشل الثورات والحركات العمالية والطلابية التي حاولت إحداث تغيير جذري، بالإضافة إلى فشل الحركات والأحزاب الديمقراطية الإصلاحية. دخلنا إذاً حقبة الفرد المشرذَم والمنقطع عن التاريخ وعن هويته الجماعية وعن الآخرين. فرد بلا مشاعر كما وصفه فريدريك جيمسون نتيجة الثقافة السطحيّة التي يعيشها، حياة في الحاضر تتشكّل من لحظات متقطّعة نحاول أن نبحث فيها عن قطرات قليلة من اللذة القصوى والسريعة. يذهب مارك فيشر أبعد من ذلك في التحليل فيتحدث عن "المتعة المكتئِبة" أي عندما يصبح الفرد المكتئب "غير قادر على إيجاد اللذة وأيضاً غير قادر على فعل أي شيء سوى البحث عن اللذة. هو شعور بنوع من النقص" في المجتمع والثقافة.
هكذا تحوّلت النضالات الاجتماعية الجماعية إلى نضال الفرد من أجل ذاته وحريّته الشخصية، ولكن حتى هذه الحرية هي حرية تحت سقف السوق. حرية تشترط أولاً الانصياع لأوامر السوق. إذ يحلّ الإنسان المعاصر زائراً في هذا العالم بموجب عقدٍ وَقّع عليه من دون أي حق بالتفاوض على الشروط - هو يشبه العقد الذي تحدّث عنه مارتن هايدغر واصفاً اللغة بـ "بيت الوجود" الأول الذي يربط الإنسان بالعالم. العقد الرأسمالي الذي نولد فيه هو أيضاً عقدُ عملٍ من أجل الوجود. المفارقة هنا أن العَمَلَ في العالم الرأسمالي هو شرط الحرية، ولكنه عمل بالإكراه، أي نقيض الحرية أيضاً. مونا رفضت العقد وقررت فسخه كاملاً على الرغم من العواقب. ولكن في هذا الفضاء الجديد الذي دخلته مونا عنوة، وحيث لا عقود ولا ضمانات ولا توقعات، ولا انتصار على منطق السوق، نرى أن كلّ شيء من حولها هشّ، دائم التحوّل والتغيّر، فتمشي وتعبر من حوله… "كل ما هو صلب يتحول الى أثير."
صرخة المتجوّل
تصوّر اللوحة الشهيرة "المتجوّل فوق بحر من الضباب" الإنسانَ الحديث بعين فنان الحقبة الرومنسية الألماني كاسبر دايفيد فريدريك، مظهرةً تفوّقه على الطبيعة وغموضها وعنفها. وضعت الحداثة حدّاً فاصلاً بين الإنسان والطبيعة لحمايته منها، من الأمراض والكوارث الطبيعية والحيوانات المفترسة. بعد أكثر من نصف قرن على لوحة فريدريك، رسم إدفارد مونك لوحة تعبّر عن نوع آخر من القلق يواجه الفرد في عصر الحداثة: "الصرخة"، عندما قرر الفرد أن يصرُخ هرباً من مشهد الطبيعة المرعب.
مونا لا تهاب الطبيعة ولكنها تصل في النهاية إلى ما سيقودها لاحقاً إلى حتفها: كرنفال ورثه سكان البلدة من فلكلور القرون الوسطى، حيث يتنكر عدد من الرجال على شكل أشجار ويتقاذفون البراز والنبيذ. مثال عن الرجل الحديث الذي يعيد تمثيل قيم قديمة ويدفع بمونا نحو هلاكها.
"بلا سقف ولا قانون" هو خلاصة جدليّة للوحتي "المتجوّل" و"الصرخة". في الفيلم، يصرخ الفرد ويتعذب، ثم يموت، ليس بسبب التباعد الحداثي فحسب، إنما أيضاً بسبب ظروف توحي بأننا نعيش في عصر ما قبل الحداثة: الطبيعة عادت لتهددنا جميعاً بالفقر والموت، كما في العصور الوسطى، في حين تسمّم الواقعية الرأسمالية لحمنا بالطفيليات.
موت الشابة مونا لا يعني موت الحلم، فالشخصيات المعذّبة والهشة التي كانت تدور من حولها في الفيلم تدلّ على موت مجتمع لا يمكن أن تتحقق الحرية الفردية من دونه. موت مونا لا يعني موت المغامرة والحلم بالحرية، بل استحالتها في ظلّ غياب مشروع جماعي واضح يضع نصب عينيه حُلُم الحرية للجميع.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة