"باريس، بإمكانك أن تبقي نائمة!"
قبل 127 عاماً، وُلدت السينما في باريس. في قبوٍ تحت مقهى الغران كافيه تجمّع عددٌ من الفضوليين الذين حضروا لمشاهدة أوّل عرض سينمائي في التاريخ. تقول الأسطورة، أنّ المشاهدين المتحمسين أصابهم الرعب من مشهد قطارٍ ظنوا أنه يتّجه نحوهم فأحنوا رؤوسهم خوفاً. طبعاًَ، هذه القصة لا أساس لها من الصحة. إلا أنه، في هذه الأسطورة، بعض من الحقيقة. هذا الفن الجديد كان مصدر سحرٍ وصدمة في آن معاً. السينماتوغراف المولود من عظمة الحداثة وأدواتها البصرية والكهربائية، كان أيضا يحضّرنا لعالمٍ جديد، عالم من الصدمات والإنبهار والخوف والعظَمة.
في نفس الفترة، أي بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، تحوّلت المدن إلى مساحة انصهار إجتماعي وطبقي واقتصادي يتم إنتاجه يومياً، ومعرض سلعٍ ومسرح استهلاك. ومنذ منتصف القرن العشرين، أصبحت المدينة قطبا أساسيا من أقطاب رأس المال الذي لا ينفك يبحث عن فضاءات جديدة لاستعمارها، فانتقل النظام إلى مرحلة "إنتاج الفضاء الرأسمالي" حسب تعبير الفيلسوف الماركسي الموقفي (situationniste) "هنري لوفيفر" في سياق حديثه عن الإنتقال من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المُدُنية.
باريس، نجمة السينما الأولى والشخصية الرئيسية في كثير من الأفلام، أصبحت أيضاً ضائعة بين الرعب والصدمة التي أنتجتها عجلة رأس المال من جهة، والعظمة والسحر والحب والشاعرية التي ورثتها من مكانتها التاريخية كحاضنة للفن والثقافة، من جهةٍ أخرى.
يأتي فيلم "عشاق الجسر الجديد" (1991، إخراج ليوس كاراكس) Les Amants du Pont-Neuf في سياق هذه التناقضات الباريسية. تماماً كالعرض السينمائي الأول، يبهرنا الفيلم بالسحر أولاً ثم يصدمنا بالواقع والعنف والمعاناة. هكذا يبني كاراكس شكلياً فيلمه عبر أسلوبين سينمائيين متعارضين: الأول هو أسلوب السينما الإنطباعية وأفلام الفانتازيا حيث تختبر الشخصيات والأماكن والاشياء تحولات مفاجئة وغير منطقية. أما الثاني، فهو أسلوب السينما الوثائقية التي تنقل الواقع الباريسي كما هو.
يروي الفيلم قصة حب بين أليكس وميشيل، وهما شخصين ضائعين في مدينة ضائعة. وصفه البعض بالـ "أبوكاليبس ناو" الفرنسي الذي كان كارثة إنتاجية وتمويلية كادت تقضي على الفيلم.
كواليس المدينة
اعتدنا في السينما أن نشاهد كيف يقع الناس "العاديون" بالحب في باريس، ولكن المخرج ليوس كاراكس يطرح السؤال التالي: كيف يقع المشردّون في الحب؟ كيف يشربون الخمر ويحتفلون ويتسلون ويتسكّعون ويعيشون ويتنفسون في باريس من دون أن يملكوا فرانكاً واحدا؟ الفقراء أصلاً يعانون، فما بالك بالذين لا يملكون شيئا على الإطلاق؟ كيف نجمع بين رُقي الحب وعُنف التشرد؟
الجسر الجديد (Pont-Neuf)، هذا اللامكان المنفصل عن كل شيء من حوله، يشبه نهاية العالم. يعيش عليه الحبيبان، بين الباطون العنيف ومياه النهر التي يعطيها كاراكس طابعاً سحرياً. هذا اللامكان يجسّد في نفس الوقت الحرية التامة والسجن، يعبّر عن العلاقة الحميمية مع المدينة والإنسلاخ العنيف عنها. جادات باريس العريضة ليست مجرّد لوحات مصمَّمة لجذب السياح، بل أدوات قمع وتحكّم. ففي القرن التاسع عشر وبناءً على طلب نابليون الثالث، قام البارون هاوسمان بتدمير باريس الثورية وبناء جادات طويلة ومستقيمة بهدف السيطرة على الجموع والمظاهرات الكبيرة في حال عادت وتكرَّرت. باريس اليوم أيضاً، كما باقي مدن وعواصم الغرب المتقدّم، مشهورة بالتصاميم المعمارية والمدنية المضادة للمشردين. تصاميم مصنوعة خصيصاً لإلحاق الأذى بالأجساد المتمرّدة وإبعاد المشرّدين ومنعهم من النوم أمام واجهات المحال التجارية أو على مقاعد الحدائق التي من المفترض أن تكون "حدائق عامة".
هكذا يبدأ مجتمع باريس الخفي بالظهور على عدسة الكاميرا: هم في كواليس مسرح باريس، فقراؤها، ظروفها الماديّة، باريس التي فُرض عليها أن تصبح غير مرئية، الكواليس التي لا يراها إلا العمّال ومن يعانون من ايديولوجيتها العنيفة، السكارى والمدمنين والمشرّدين القابعين في دور المشرّدين وأنفاق المترو الليلي، الخارجين عن سلطة المتعة المنظّمة.
باريس هذه لا تُلائم ملايين السياح الذين يأتون سنوياً للتمتع بأضوائها وليلها وشاعريتها ومطاعمها ومقاهيها ومعالمها السياحية. وهكذا تحوّلت معظم المدن الفرنسية إلى "فيترينات"، أي أن وظيفتها الأساسية أصبحت تسهيل الاستهلاك وتشجيع السياحة، بعد أن تمّ القضاء على المصنع والصناعة. وهكذا أصبحت باريس، لا تحجب فقط الواقع الذي يعيشه عمال المدينة، بل تمنع أيضاً عن العمال حقّ الحياة في المدينة.
يرى المفكّر ديفيد هارفي المدينة كمكان أساسي للإستغلال في عصرنا النيوليبيرالي، وبالتالي كمكان أساسي للتنظيم العمّالي والثوري، وتاريخ الثورات الحديثة يشهد على دور المدينة، من كومونة باريس الى عمّال بتروغراد مروراً بشابات وشبّان القاهرة وتونس. يتطرّق هارفي إلى واقع العامِل الذي يساهم في "إنتاج المدينة" كل يوم ولا يقدر على العيش أو الإستهلاك فيها. لكن من (أو ماذا) يُنتج القوى العاملة التي يشتريها رب العمل؟ في "نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعية" تطرح النسوية الماركسية "تيثي باتاشاريا" مدخلاً للإجابة عن هذا السؤال الذي لم يعالجه ماركس في تحليله لأسلوب الإنتاج الرأسمالي. فهناك عملية إجتماعية معقّدة تُعدّ شرطاً لاستمرار و"تكاثر" العمّال، وبالتالي استمرار الإنتاج والاستهلاك. السكن والنوم والطعام والعائلة واللعب والترفيه والصداقات والصحة النفسية والجسدية، جميعها عناصر تدخل في تركيبة الظروف الإجتماعية الضرورية لإعادة إنتاج المُنتِج، وتلعب النساء دوراً أساسياً في غالبية هذه العناصر.
أمّا المشرّدون، فهم عمّال سابقون - عمّال لم تتوافر لهم عوامل إعادة الإنتاج الاجتماعية، لا من صحة نفسية أو حبّ أو تضامن، لا مسكن لائق أو ظروف مادية مقبولة كشرط لإعادة إنتاج القوى العاملة، هم خسروا كل شيء. هذه الظروف الإجتماعية هي محور من محاور الفيلم، ظروف إعادة إنتاج حبيبين عاطلين عن الإستهلاك والإيجار والإنتاج. فنراهم يرقصون، يسكرون ويحتفلون، يمارسون الجنس، يأكلون، ينامون، يستحمّون في العراء، ينامون على الجسر، يسرقون الطعام، يبحثون في القمامة، يخدّرون الأغنياء لسرقة أموالهم ويسرقون الجرائد إنتاجات الثقافة.
كل ذلك يحدث في سياق تاريخي حقيقي يستخدمه كاراكس لإضفاء قيمة وثائقية على الفيلم. عام 1989، وخلال تصوير الفيلم، كانت باريس تحتفل بذكرى مئتي عام على الثورة الفرنسية. الإحتفالات عمَّت الشوارع بالإضافة إلى العروض العسكرية. يستفيد كاراكس من المناسبة ويدمج هذه المشاهد في الفيلم. في أجزاء أخرى من الفيلم، يشعر المشاهد أنه انتقل من فيلم درامي إلى وثائقي. فهنا أيضاً يحمل كاراكس كاميراته ويدخل إلى دور المسنين والمشرّدين لينقل بواقعية تامة نمط حياة اولئك المنبوذين. فمن وجهة نظر المشرَّدين، لم يبق من الثورة سوى بعضٌ من دولة الرعاية التي تسمح لهم بالنوم في مأوى لبضع ليالي. وحدها صورة جميلة عن الثورة لا تزال طاغية في الحاضر، فقط إستعراض يشير الى حدث حصل في الماضي، وكأن الثورة لم تكن. الصورة الجميلة تصبح تعويضاً لغياب القيم الثورية الحقيقية. فباريس ما زالت تعجّ بالذلّ والفقر، ومن كان أول الثائرين قبل 200 عام، أي النشالون والباحثون عن الطعام في النفايات ما زالوا هنا يمارسون نفس المهنة. مَشاهد العرض العسكري والعنف والصخب واهتزاز الكاميرا التي تظهر وكأنها تصور ساحة حرب، تتقاطع مع مشاهد مفعمة بالحركة والطاقة للحبيبين الذين كمن يعيد تمثيل الجريمة، يعيدنا إلى الثورة بحركة لاواعية، تعبيراً عن حاجة محتملة لثورة ثانية.
التشرّد امتدادٌ للحبّ
يلتقي بطلا الفيلم أليكس وميشيل ولا يعرفان عن بعضهما سوى أنهما بطبيعة الحال ينتميان إلى عالم المتشردين، فتفترش ميشيل الجسر مع أليكس، مدمن المخدرات والبهلواني العاطل عن العمل، باستثناء بعض العروض التي يقدمها للعموم على الجسر. أمّا ميشيل، فهي رسّامة هربت من عائلتها البورجوازية بعد عِلمها أنها سوف تفقد نظرها بسبب مرض نادر في عينيها.
ظروف المتشردين تجعل منهم ومن حبهم حالة هشة. ولذلك يظهَر حذر كاراكس من الإفراط في الرومنسية في تصوير هذه العلاقة، فيسلّط كاميرته باتجاه أليكس ووضعه النفسي وذكوريته وعنفه وغِيرته وعدم قدرته على التواصل بطريقة شفافة مع ميشيل. رغم كل ذلك، يستطيع الحبيبان أن يخلقا مساحة حرة من الحبّ، كفعل مقاومة، على نقيض من المساحة المدمِّرة التي تخلقها المدينة.
إذاً عشّاق الجسر لم يستسلموا، فهُم رغم ظروفهم، استطاعوا أن يخلقوا حالة حبّ داخل هذا الوحش القاتل، بل سعوا أيضاً للإنتقام من المخلوقات النهاريّة البرجوازية، بشرية كانت أم حجرية، وترك بصماتهم في كافة أرجاء المدينة. يركب الحبيبان تمثال الملك هنري الرابع ويطلقن االنار في الهواء، يرقصان بجنون بالتزامن مع إطلاق الألعاب النارية بمناسبة عيد الثورة، ثم يتزلّجان على مياه نهر السين في واحدة من أشهر المشاهد في تاريخ السينما الفرنسية. هذا التعارض بين الجسد الحيّ ومدينة الأسوار والباطون يتجسد عبر حركات بهلوانية يؤديها اليكس، فيتصادم مع المدينة عند كل محاولة "بهلوانية" كمن يحاول أن يلوي ذراعها ويكسر جبروتها.
يركض أليكس وميشيل في المدينة ليلا كأنها ملكهما، العام يصبح خاصاً والخاص يصبح عاماً، المدينة تصبح بيتهما، يردمان الحدود بين الملكية الخاصة والعامة، وبأعمال رمزية، يؤمِّمان المدينة مع كلّ خطوة فيها، يقطعان التيار الكهربائي عن المنازل الجميلة، ويطفئ أليكس أنوار الجسر عندما تذهب ميشيل الى النوم. أفعال كهذه لا يمكن وصفها إلا بأنها وسيلة يائسة لإضفاء بعض التوازن في العلاقة بين الفقراء والمدينة، وبين الفقراء والأغنياء. هذه الأفعال (كالـ "Mad dance of capital") هي أحد طقوس المشرّدين ليقولوا: "هذه المدينة لنا".
بوهيميا
في النصف الأوّل من القرن العشرين، كانت الحياة البوهيمية تساوي حياة التشرّد، وكان لها أثر على التاريخ السياسي والثقافي، وتنعم بطاقة جماعية تسمح لها بأن تفرض بعضاً من قوَّتها على المدينة. يبعد "الجسر الجديد" بضع دقائق عن حي "سان جرمان دي بري". هناك ولدت في سراديب مجتمع الحداثة حركات ثقافية راديكالية، أهمها "الأممية الموقفية" التي حلمت بخلق مدينة جديدة ومساحات مُدنية تتفجر فيها طاقات بشرية وشغف من نوع جديد. هكذا وصف "غي دوبور" مهمة الموقفية، "ولكن ذلك لم يكن سهلا، فتوجب علينا فعل أكثر من ذلك بكثير". في كتابها، "البحر تحت الشارع" (The beach beneath the street) توثّق الكاتبة ماكينزي وارك هذه الولادة في شوارع "سان جرمان دي بري". تقدّم إضاءات على حياة هؤلاء البوهيميين الذين استطاعوا، في ظلّ حياة الفقر والتسوّل، أن يحلموا وينشطوا جذرياً في المدينة. تشرح "وارك" أن المدينة الجديدة التي أرادها الموقفيون لن تكون مكاناً للعمل إنما مساحة للّعب، فيها تتم إعادة اكتشاف الفضاء والزمان خارج تقسيمات العمل: "الهدف هو خلق حضارة جديدة، ولا شيء أقل من ذلك".
في "عشّاق الجسر الجديد" نتأرجح كمشاهدين بين ديستوبيا مفروضة بالقوة على الفقراء ويوتوبيا المدنية التي يفكّكها هؤلاء الفقراء الفنانون. يعيدون رسم حدود المدينة وحدود الممكن بأيديهم وعقولهم، يرسمون حبّهم على إسمنت المدينة وسمائها، فهم لا يملكون فيها سوى أجسادهم وأفكارهم.
المدينة تخطّت بصلابة تهديد البوهيميين، والموقفيين من بعدهم، وثورة 1968 وثورة 1798، ولم تولد هذه الحضارة الجديدة التي نادى بها أولئك. معهم، يرحل أليكس وميشيل من المدينة من أجل إنقاذ حبّهما. يرحلان نحو المحيط، نحو مياه جديدة، أي بِحسَب لغة الفيلم نحو الحلم والسحر. وهكذا يرسو الفيلم في النهاية على نظرة يوتوبيا حزينة. تصرخُ ميشيل، باريس لا تزال نائمة.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة