أعود سنتين إلى الوراء. أنا مسمرّة على سريري في غرفتي الزجاجية. في المنتصف. لا نائمة ولا مستيقظة. أعي أنني في حلم، ويحاول عقلي جاهدًا أن يوقظني من دون نتيجة. الكابوس مظلم، لكنه حقيقي. مديري أمامي، في غرفتي الزجاجية الآمنة. فظاظة من مديرك أن يخترق غرفة نومك وأنت نائم. عليك أن تصارع الكوابيس، وتصارعه هو. ربما الفظاظة منك أنت لأنك سمحت له بالدخول، وسمحت لنفسك بكل هذا العذاب. أنا لست نائمة. أنا لست مستيقظة. أنا معلقة. هناك، بين الاثنين، في مهب الريح. وأنا أكثر هشاشة من أن أبقى متماسكة.
بعد كلّ عملٍ أتركه ويترك فيّ ندوبًا نفسيّة، كنت أحاول أن أفهم. أن أجد حلولًا، أن أُشفى… وفي كلّ مرةٍ كنت أرجع إلى نفسي منكسرة وعاجزة.
لكني في المرّة التالية، عندما أذهب إلى مقابلة عمل وأُسْأل عن نقطة ضعفي، لن أقول إني perfectionist. سأقول إنها القلق الذي يتآكلني، ويعوّق دائمًا عبوري إلى النصف الآخر من الأمور. ولن أكشف أني في اجتماعات كهذه أقرص بيدي اليسرى رجلي، وأخنق باليمنى أنفاس القلق داخلي. سأطمئنهم أن قلقي لن يؤذيهم. أنا الجلاد هنا وأنا الضحية.
وإن سُئلت مجددًا عمّا أحتاجه لأُنجز في شكل جيّد؟ سأصوّت هذه المرة لغرفةٍ مغلقة وزوايا أربع. وإذا وُجدت في هذه الزوايا مكاتبُ كبيرة كفاية لأختبئ تحتها، سأكون لهم من الشاكرات. أحتاج أيضًا حمّامًا يمكنني أن أقضي فيه عشر دقائق يوميًّا وأنا أركل الحائط وأضربه بكل قوتي. سأخبرهم ألا يقلقوا، فلن يلاحظ أحد شيئًا. شتاءً، أحتاج سترةً فضفاضة إلى درجة تسمح لي أن أضمحلّ وأختفي داخلها. وإذا كان في إمكانهم تحقيق المعجزات، فسأطلب عباءة هاري بوتر السحرية، أتخفى داخلها لأراقب الجميع، وأنا أستمع إلى الموسيقى الصاخبة من سماعات الرأس.
قلقي يتربّص بي دائمًا في منتصف الطريق. هو متجبّر ومخادع. يجلس بين يدي وسماعة الهاتف. يمنعني من إنجاز العشرين مكالمة الموكلة بها. يمنعني من أن أنجز حتّى واحدة. ثم يمنعني من الاسترخاء والاستراحة إن لم أنجز تلك المكالمات العشرين. وبكل مكر، يحرمني من النوم ليلًا، فأغرق في دواماته الجارفة.
نادرًا ما أحببتُ عملي، أيَّ عملٍ ومهما كان يستهويني. لطالما شعرتُ بذاتي بعيدةً ومغتربةً عنه. شغفي في الكتابة مثلًا تحوّل إلى دماري، وإلى ليالٍ من القلق والكآبة. وحتّى في أفضل ظروف العمل الممكنة، ظللت أشعر بأن هذه المنظومة تطحنني بين أنيابها. وفي دفاعي المستمر عن نفسي، أرهق وتخور قواي.
يتربّص ذلك المتجبّر بسعادتي خلف الباب. وفي أكثر اللحظات حميميةً وجمالًا، يقفز إلى أحشائي. يعتصرها بيديه ويخنقني من الداخل. أشدّ على قبضة يدي حتّى تخدش أظافري جلدي. أصدّق صراخه. أنا لا أستحقّ هذه السعادة. ثم أستسلم له وأتراجع.
أمورٌ صغيرة تفلح أحيانًا في انتشالي من تلك الدوامات العاتية. صوت أم كلثوم من سماعات الرأس، روبي وأنا أرقص على أنغام آهاتها. تويتر أيضًا يتيح لي الكلام، لكنّه لا يلبث أن يُسكِتني حين أتخطى أحرفه الـ ٢٨۰.
ومع أن الاسترسال في المشاعر مبتور في تويتر، وجدتُ في مجتمع "العصفور الأزرق" أني لست وحيدة، أن مآسينا متشابهة مهما اختلفت، تتدفّق من النبع ذاته: هذه المنظومة التي تُبعِدنا عن ذواتنا وعن الآخرين. تُكرّهنا بعملنا حتّى يصبح زملاؤنا ألدّ أعدائنا. تُغرّبنا عن إبداعنا وعن جوهرنا. فيصارع كل منّا آلامه وحده.
على أحد جدران بيروت التي استعدناها بعد ١٧ تشرين، ومعها مشاعرَنا المسلوبة، كتب أحدهم "تسقط الـ anxiety"... عبارةٌ جعلت وحدتي وألمي أخفّ ثقلًا بمشاركتهما مع الآخرين.
أحاول الآن أن أعود إلى الكتابة، علّني أنتشل نفسي من دوامة صراعي الدائم معها. فهناك، في المسافة التي تفصل بيني وبين الكلمات التي أكتبها، يسكن القلق
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة