عام 1967، عرضت الصالات فيلم "Agent 505: Death Trap in Beirut" وهو من أفلام التشويق الجاسوسية (Eurospy films) التي حاولت ركوب موجة سلسلة أفلام العميل 007 - جيمس بوند، ولكن بميزانية محدودة ومستوى فنّي ركيك. تدور أحداث الفيلم في بيروت، التي يزورها البطل، عميل الانتربول، في مهمة لمنع رجل شرّير ملقّب بـ"الشيخ" (لإضفاء نكهة اكزوتيكية أو استشراقية) من تفجير مدينة بيروت وقتل أهلها بواسطة قنبلة مصنوعة من مادة الزئبق المشعّة.
***
تَجول الكاميرا في معالم المدينة. المطار، طيران الميدل إيست، الصرّافين والمصارف، الكورنيش، مسبح السان جورج، فندق الفينيسيا. بيروت مدينة المال واللّهو، مدينة الجواسيس. إن الحرب القادمة، قادمة.
***
موسيقى الفيلم التصويرية للمؤلف إنيو موريكوني. إلا أن الفيلم بقي من الأنواع الهابطة أو أفلام "التقليد"، ولم تُنجده موسيقى موريكوني.
والفيلم نسخة "ممسوخة"، simulacra، عن فكرة أصلية، أفلام جيمس بوند الأسطورية، كما هي حال بيروت… ساحة خاوية ومساحة للاستعراض، من دون أصل. يتغيّر الديكور، تُشغّل الكاميرا، تقع الواقعة، يظهر البطل على خشبة المسرح، تنفجر القنبلة، ونُعيد ونكرر.
***
في نفس العام، خلال عرض الفيلم، تأجّل مشروع بناء إهراءات القمح في مرفأ بيروت، بعد أن أفلس بنك إنترا، وغادر صاحبه وصاحب الفكرة لبنان. بعد أكثر من نصف قرن، تحوّلت القنبلة إلى حقيقة، وبُنيَت إهراءات القمح أيضاً. القنبلة انفجرت، والإهراءات منعت كارثة أكبر كانت ستحلّ على المدينة. يا له من فيلم. يا لطيف.
***
غداً يعود الاستعراض، ويُخرِج الصرّاف رأسه من النافذة، ليجيب عن السؤال الوجودي "إديش الدولار اليوم". يَعبر الجاسوس الوسيم الشارع، يجول في تضاريس ضحيّته. يواجهه البطل المنافق، يكتُب قصيدة عن المدينة. تَعِدُك المصارف بتحقيق أحلامك، الليرة بألف خير، ولو بعد ألف انفجار. يتغيّر الديكور، الممثلون لا يتغيّرون، تتغيّر الزينة بأشكالها اللغوية كافة، تعبق في الصالة رائحة مجرور المدينة، يحشر الجمهور مؤخرته في المقاعد الأمامية، يتكرّر المَشهد. تُمحى الذاكرة. تجذبهم غريزة الموت. يفقدون المعنى. يغلبهم النعاس. يتمنّون لو أن العرض انتهى، أن تنفجر القنبلة ليرتاحوا. فلتُسدَل السّتارة. بيروت مدينة موقوتة، والناجي الوحيد هو الجندي المجهول.
لتصفّح العدد 20
____
الرسم: همام السيّد، حبر على ورق. 2020.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة