وقتٌ مستقطَع يحتمي بين غارتين، في فراغ اللقطة المصوّرة من فوق، لا يهدأ، يبحث عن فرصة، يبحث عن ملجأ... 

العدد 33 من مجلة "رحلة" يحمل العنوان التالي: "في الوقت المستقطَع، احتمالات لا نهاية لها". هذا العنوان له تأثير متناقض ومتضارب. "الوقت المستقطع" (time out) غالباً ما يكون حيّزاً مأخوذاً من كلّ، قصيراً ومحدوداً، سريعاً. أمّا "احتمالات لا نهاية لها"، فتشير إلى اتساع الوقت وتنوّع الخيارات. وفي العنوان أيضًا إشارة إلى ما يفعله المونتاج (التوليف) بالصور والأحداث من تفكيك وإعادة تركيب أو حتى تفخيخ وتخريب المشهد لخدمة غاية ما. ليس مستغرباً أن يحمل هذا العنوان طيف وحماسة إعلانات المصارف والوعود التي تنهمر على المستهلك، وهنا أيضاً تفخيخ لأسلوب التواصل التجاري السائد. 

***

في العام 2025، ما زال هناك من يملك القناعة والاستعداد للسّير حافي القدمَين نحو الموت من أجل فكرة. هذه العبارة قد تبدو عاديّة، أو متوقّعة، أو تحصيل حاصل، إن لناحية عِلمنا بشؤون بلادنا، أو لأن الثقافة السائدة حول العالم، من سينما وغيرها، لطالما عظّمت ورفعت، ضمن حيّز الشاشة طبعًا، من شأن الشخصيات المتخيّلة المستعدّة للتضحية من أجل فكرة. في العام 2025، ما زال هناك من يملك القناعة والاستعداد للموت من أجل فكرة رغم غزارة "الأفكار" وفائض الكلام والأحداث التي يولّدها الذكاء الإصطناعي الآخذ في التمدّد في الواقع على حساب كساد أفكارنا.

فلماذا هذا الإصرار؟

***

ليس مستغرباً التصعيد الذي يخوضه المستعمِر، ليس فقط في مواجهة المستعمَر، بل أيضاً في مجال صناعة المشهَد. هكذا يحتلّ المستعمِر بيتًا جنوبيًا، يفخّخه، يفجّره، ثم يفرض علينا مشاهدته. ثم يقيس مدى تفاعلنا مع المشهد لتحسين أدائه في العرض التالي. نحن أيضاً، احترفنا في لحظة ما تطويع الكاميرا: أن نرفض، نصنع المشهد، ونفرض على العالم أن يُشاهِد ما نريد.

أيّ شيء يقتل الإصرار؟

***

يقول البعض: "نحن ندخل مرحلة جديدة"، "المعادلات القديمة لم تعد تنفع"، "موازين القوى انتهت صلاحيتها"، "هذه أفكار بالية". لكنهم لا يحددون لنا ماهية هذه المرحلة، ولا يبدو أنهم يتذكرون ما سبقها، ولم يحالفهم الحظ يومًا في تنبؤ ما بعدها. يتحوّلون إلى صُنف من أصناف شات جي بي تي: "لا يمكنني الإجابة على هذا السؤال." طيب، ماذا تريدون؟ في هذا الوقت المستقطع، يُولد واقع جديد متخفّيًا خلف عبارة مستهلكة: "التاريخ يعيد نفسه." أي، "ممنوع الاحتمالات." ما هذا الضجر؟ ما هذه الصحاري الكلاميّة؟

كيف يعيد التاريخ نفسه رغم كل هذا الدّم؟

***

ليس التاريخ خطاً مستقيماً يعبُر حتماً في اتجاه واحد. أو طريقاً دائرياً يعيدنا دائماً إلى نقطة الإنطلاق. بل هو ركام ينتظر من ينتشله، يحمله على ظهره ويواصل العبور إلى احتمالات لا نهاية لها. 

***

في الفترة الماضية (2019-2024) كنا نتسابق مع الأحداث من أجل إصدار أعداد من "رحلة" تحمل معنى ما أو ترسل إشارات بأن ما يحصل لا يعني حتمًا إصابتنا بالشلل. رأينا في الإنهيار المالي والجائحة وتصدُّع الهيكل فرصة - وقتًا مستقطعًا لدعوة من هم من حولنا إلى إعادة النظر في الزمن الحاضر أو "استعادة النظر". استعرنا من الشارع استعادة "الوقت المنهوب". هذا الوقت المستقطع هو "لحظة الحاضر المشحونة بالتاريخ"، أو "كايروس" أي اللحظة-الفرصة المناسبة للفعل والمبادرة والحركة في مواجهة كرونوس-الوقت. كان الوقت يداهمنا في كل مرة. كان الوقت أقوى منّا. مؤخّراً، كنّا نتسابق مع البث المباشر والشرائط المصوّرة والصواريخ المتساقطة فوق أهلنا. اعتقدنا أن لا وقت للتفكير. وأن ديكتاتورية الزمن باقية للأبد لا محالة.

ولكن، ماذا نريد؟

***

نريد أن نردم الفجوة بين الواقع والممكن، أن نعيد ترتيب المشهد. نريد وقتًا مستقطعًا لاستعادة الحدث. نريد تحرير الخبَر من عبارات "عاجل" و"داهمنا الوقت" التي ترافقنا على الشاشات. نريد أن نتمّعن في المجزرة، في الوجوه، في الوقائع، في الخطايا، أن نقحم أنفنا فيها، نتنشّق معاني الموت ونعيد قذفها في وجه العالم. 

إذًا، كيف نتناقل المعنى في عالم اللغة المرئية المجزّأ والمحكوم بالوقت؟

***

علينا القِتال على جبهة اللغة. اقطَع المشهَد بالمقصّ هنا، ضع شريطاً لاصقاً هناك، تراجع قليلًا إلى الوراء، ناوِر، إلعب مجدداً! امتَهِن أدوات التخريب والتفخيخ والتكسير: المونتاج كوسيلة لإنتاج وتناقل المعنى، سواء من خلال النصوص أو الفيديو أو الصور، وسيلة لإعادة خلق الواقع بلا قيد أو شرط. هذه دعوة للتأمّل في فكرة "الوقت المستقطع" كمساحة مؤقتة تختزن الاحتمالات. كَعَدسة لفهم واقعنا وكيفَ يُستخدَم المشهد والصورة والمونتاج كأدوات للهيمنة… أو المقاومة.
***

أدوات التخريب والتفخيخ والتكسير متوفرة بين أيدينا: عبوة نصيّة تسكِت الضوضاء من حولنا، سكّين توليف يقطّع الفيلم ويعيد ترتيب المشهد، عين تَرى، تُلاحق قوافل الشهداء، تُرابط على الجبهات وتفتَح أعيُننا على الواقع والممكن، وما بينهما، أي الوقت المستقطع. الحرب لمن يروّض الوقت لصالحه. يواش يواش. إنها الحرب … كوقتٍ مستقطع.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button